في الوسط الشرقي من إنجلترا، بالتحديد في مدينة ليستر، اعتادت مياه نهر «سوار-Soar» أن تهتز بهدوء وفي خفوت تام، متأثرةً بالحركة الدؤوبة التي أخذت طائرة مالك النادي الجديد تفعلها بعد وقبل كل مباراة يحتضنها ملعبهم الصغير، ولسبع سنوات متتالية.

مدينة هادئة على ضفاف نهر مغمور، يمكنك أن تراها -فقط- إذا كنت ذاهبًا من لندن إلى شمال البلاد أو العكس. قبل 5 سنوات لم يكن لها أي أثر في أي محرك بحث يذكر، ولا في عقول حافظي المجال الكروي -إلا المتعمقين منهم، سرعان ما أخذت كل الأعين والقلوب، وباتت قبلة المهمشين ومثال الطموح بالنسبة للآملين بلا إمكانيات.

انتقل نادي ليستر من طور المحاق في سماء الكرة العالمية الواسعة إلى بدر إنجلترا المنير في عام 2016. بدا أن رجال ذلك العمل معروفين بالاسم لدى الجميع، لكن الأب الروحي لتلك التجربة ظل بعيدًا عن الأضواء، كما يحب دائمًا، حتى أنارت طائرته الخاصة ساحة انتظار السيارات في ملعب «كينج باور»، ولكن بنيرانٍ حارقة.


انتهت القصة من حيث بدأت

في الشهور الأخيرة من عام 2018، نشرت الصحف الإنجليزية أخبارًا تفيد بحدوث انفجار في ساحة السيارات بملعب الثعالب، الأنباء الأولى أكدت أن ذلك الحادث سببه طائرة مالك النادي «فيتشاي سريفادانابرابا»، لكن ظلت الأخبار بلا دليل واضح عن كون صاحبها بداخلها أم لا، أو عن حالة الطاقم، حتى اليوم التالي.

خلال الساعات ما بين إعلان خبر اندلاع النار بالمروحية وبين تأكيد وفاة صاحبها، أخذ سكان المدينة يتوافدون على موقع الحادث مصطحبين الورود، منكسي الرؤوس، منتظرين الحديث من الأنباء خلف السياج الشرطي الموضوع حول مسقط الطائرة، حتى نشرت الجهات الرسمية للنادي خبر وفاة الملياردير التايلاندي، الذي كان رئيسًا ومالكًا له منذ فبراير/شباط من عام 2011.

جرت العادة أن يرحل ويحل الرئيس في مروحيته الزرقاء من قلب الملعب، كانت تلك المرة الأخيرة بعد مباراة فريقه ضد ويست هام، والتي انتهت بالتعادل الإيجابي بهدفٍ لمثله، في الـ27 من أكتوبر/تشرين الأول لعام 2018، اصطحب التايلاندي 5 أشخاص، بمن فيهم طاقم المروحية، نحو رحلة العودة من ملعب «كينج باور»، لكنها لم تكتمل، أو لم تبدأ من الأصل.

شهود العيان أكدوا أنهم رأوا الطائرة تسير بشكل غير منضبط فور خروجها من نطاق المدرجات بعد ساعة من المباراة تقريبًا، التفسيرات التالية أكدت أن ذلك بسبب خلل -غير معروف حتى كتابة هذه السطور- في المروحة الخلفية، مما جعل السيطرة على الطائرة خارج قدرات قائدها.

ثوانٍ معدودة قبل أن تسقط، وقامت ألسنة اللهب بمهمتها بعد ذلك. قدر للفصل الأخير من الرواية أن تكتب سطوره فوق نفس الأرض، لكن الفصول الأولى كانت أبعد من ذلك بأميال.


إذا كان رب البيت

من تايلاند في جنوب شرقي آسيا، تبدأ القصة الأبرز في العقد الأخير من الـ«بريمييرليج». تُعد تايلاند دولة اقتصادية مرموقة، لكنها كذلك تعرف بانتمائها الملحوظ إلى كرة القدم، العديد من المواطنين المحليين يتابعون الفرق الإنجليزية بشغف، حتى أن رئيس الوزراء الأسبق «تاكسين شيناواترا» كان له تجربة سابقة مع مانشستر سيتي، حين اشترى ملكية النادي لمدة عام واحد فقط قبل أن يتم تجميد أملاكه من قبل الدولة.

كان لتجربة الأخير في الكرة الإنجليزية أثر بالغ على حياة «سريفادانابرابا» أو «راكسرياكسورن»، الاسم الذي حمله مالك ليستر حين ولادته في عام 1958 بالعاصمة التايلاندية بانكوك، حيث قرر «شيناواترا» بناء مطار «سوفارنابومي» بالعاصمة، والذي كان لسنوات طويلة مشروع أحلامه. بدأ الحديث عنه بعد انتخابه مباشرة في عام 2001، وتم تنفيذه رسميًا في عام 2006.

وبالعودة لعام 2007، نجد أن رئيس شركة «كينج باور» كان يصنف الـ21 بين الأثرياء التايلانديين، بثروة تقدر بـ200 مليون دولار فقط، لكنها في أقل من عقدٍ من الزمان زادت حتى وصلت إلى 5.2 مليار دولار أمريكي، حسب مجلة «فوربس»، كان ذلك بفضل حصوله على المساحات المتاحة لمتاجر بيع التجزئة بالمطار المذكور، وهو ما ساعد على نمو شركته الصغيرة، التي كانت مبهمة قبل ذلك، ونجحت في أن تصبح الأكبر في تجارتها بفضل مطار العاصمة الجديد والعلاقات الوطيدة التي تجمع فيتشاي بالعائلة المالكة.

طموح الملياردير الراحل لم يتوقف عند هذه النقطة، وأثر رئيس وزراء بلاده السابق لم ينزل عند ذاك الحد. مع زيادة ثروته، بات السقف معروفًا، أن يصبح الأغنى في دولته، وهو حلم لم يكن ليليق بتاجر التجزئة الأبرز في الأنحاء، لذا وجد في تجربة «شيناواترا» ضرورة للتكرار، وقرر شراء ناد إنجليزي يزيد من قيمته المجتمعية والسياسية -وحتى المالية- في دولته.


الأحلام لا تُصنع على عجل

كانت من ضمن خطة زيادة انتشار اسم شركته كعلامة تجارية، هو رعاية قمصان الفرق التي تتابعها تايلاند ومواطنيها باستمرار، وفي إنجلترا يتعاظم ذلك الغرض. قُدّر للبدء أن يكون مع فريق صغير في الدرجة الثانية الإنجليزية، وهو ليستر سيتي، فريق يتلخص تاريخه في الوصول إلى المناطق الدافئة من الجدول، هبط في عام 2004، وكان بعيدًا عن الدرجة الممتازة من البطولة لعشر سنوات.

تراكمت فيه الديون مع سوء الأحوال الفنية، ووصلت لحدٍ لم يكن في مقدرة الملاك تحمله، فقرر الملياردير الصربي «ميلان مانداريتش»، المالك السابق، التنازل عن النادي لصالح رجل الأعمال التايلاندي مقابل 219 مليون دولار، إذا ما تم حساب قيمة الديون المتراكمة، وحوالي 39 مليون باوند إنجليزي دون الدين.

تصريح سابق لـ «أياوات سريفادانابرابا»، نجل رئيس النادي ونائبه

فور إتمام عملية الشراء، منح المالك مبلغ 163 مليون دولار في هيئة قروض للنادي من شركته الخاصة إلى كيانه جديد، كان ذلك على إثر اعترضات ظهرت في التقارير الاقتصادية والصحفية والتي أشارت إلى أن المبلغ الذي اشترى به المالك رعاية القميص أعلى من القيمة التسويقية المفروضة، بالتالي هناك شبهة فساد واضحة، فما كان لـ«فيتشاي» إلا تحويل فارق المبلغ إلى بند القروض.

حتى بالرغم من تكبد الفريق للخسائر المادية في سنينه الأولى، إلا أن الملاك لم ييأسوا، وحافظوا على طموحهم بذلك التحدي الجديد الذي يخوضه الملياردير. في عام 2014، نجح الفريق بملاكه الجدد بالصعود إلى الأضواء، وانتفعوا بعوائد البث وتوزيعها العادل الموجود في البطولة الإنجليزية.

تبلور الطموح الأولي في أن ينهي الفريق في المراكز الخمسة الأولى من جدول الترتيب، كان ذلك – حقًا- أقصى ما يتمناه «فيتشاي»، وبدأ في وضع الهدايا نظير ذلك، حيث رصد مبلغ 180 مليون باوند كتبرع منه للنادي إن تمكنوا الوصول إلى ذلك، أي بلوغ المشاركة في أي بطولة أوروبية.

مرت السنون، وحظيت تلك المدينة بشرف مرور الحافلة المكشوفة التي يحمل راكبوها كأس الذهب الإنجليزي، ليعرف العالم كله عن مدينة كتب لها أن تعيش في الظل، بقيادة رجل أحب الظل حتى مات فيه.


فيتشاي القائد وليس المالك

لو سألتني عن طموحنا وقت أن اشترينا النادي، فإننا ليس فقط لم نتوقع حصولنا على اللقب، إننا لم نكن لنجرؤ حتى على التفكير في ذلك.

كان يصر على حضور كل اللقاءات التي يحتضنها ملعب فريقه. بعث ذلك برسالة للجماهير واللاعبين تؤكد أنهم والملاك عائلة واحدة متواجدين بنفس المكان وخلف نفس الهدف.

عند غياب «جيمي فاردي»، مهاجم الفريق وهداف الدوري الذي لن ينسى، قامت إدارة النادي بتوزيع أقنعة تحمل صورته على الجماهير مجانًا، لم تكن الهدية الأولى لهم ولا الرسالة الوحيدة التي مضمونها حب للجميع، بل ربما كانت أقلهم في توصيل الفكرة.

جيمي فاردي, ليستر سيتي, فيتشاي سريفادانابرابا, مالك ليستر سيتي
لحظة طرد المهاجم جيمي فاردي، وارتداء الجماهير أقنعته التي وزعت من إدارة النادي
لقد نقلنا من فريق في الدرجة الثانية إلى ما نحن فيه الآن، من دونه لن نكون في الدوري الممتاز أصلًا. لقد كان له تأثير كبير على كل محب لهذا النادي.

أحد مشجعي ليستر سيتي عن رئيس ناديهم الراحل «فيتشاي سيرفادانابرابا».

في شوارع تلك المدينة الصغيرة،تجد الأطفال والكبار يتحدثون عن تلك العائلة، التي تملك أصولًا صينية، بكل الحب، يرددون وقائع أثبت فيها المالك أنه ينتمي إليهم وليس رئيسًا عليهم. أهداهم 60 تذكرة موسمية مجانًا لحضور لقاءات الفريق. أشرف على اسثتمار بقيمة 100 مليون باوند من أجل تطوير ساحة التدريب، بجانب خطة وُضعت قبل رحيله للتوسع في مدرجات ملعب «كينج باور».

أثبتت الأيام والأحداث أن التايلاندي لم يكن رئيسًا للنادي فحسب، بل كان زعيمًا شعبيًا على مدينة ليستر بأكملها. سكان تلك المدينة الصغيرة التي أهداها لقب الدوري وجعل العالم كله يعرفها، أهدوه هم الحب مقابل ذلك بما جعل عطاءه لا يتوقف عند حد التأثير الكروي والرياضي.

في احتفاله بعيد ميلاده، كان يوزرع الكعك والحلوى على كل المنازل في المدينة. تبرع بمليوني باوند لبناء مستشفى للأطفال بالمدينة، ومليون من أجل الطب الجامعي، ونحو 25 ألف جنيه إسترليني لصالح أحد المشجعين كان يحاول علاج ابنه من مرض نادر.

أثناء ولايته، ادعت إحدى الجماعات المجتمعية أن رفات جثة الملك «ريتشارد الثالث» مدفونة أسفل أرض ساحة السيارات، فما كان من الملاك إلا تقديم 100 ألف جنيه إسترليني كتعويض لهم، في لفتة إنسانية ليست معتادة.

رحل «فيتشاي سيرفادانابرابا» عن عالم الكرة، السياسة، الاقتصاد وتجارة التجزئة، ربما تعيش تجارته لسنواتٍ طويلة، ربما يتذكره سياسيون عدة في المستقبل القريب أو البعيد، لكن الأكيد أن اسمه حفر في قلوب مشجعي ليستر، رُسم على جبهاتهم بالذهب، وسيظل إلى أبدٍ غير معروف، هو الأب والقائد وصانع الأحلام، تلك التي خلقت لتتحقق.