وقف «حي» ساكناً يستحضر ببصره المغلق وبصيرته المتقدة خشوعاً قلبياً وروحانياً، يمنحه لذة اللقاء وصحبة الكيان الأسمى في الكون. بعد لحظات سكون، يبدأ «حي» في الدوران، فقد استلهم حركة الدوران من طول التأمل في السماوات والأجرام العُليا، ووجد في الدوران لذة تقربه من مبتغاه. يدور ويدور حتى يتحرر شيئاً فشيئاً من أثقال الجسد الفاني المُفعم بالمادة. تتحرر الروح من سجن البدن وملذاته الخسيسة وتمتلئ الروح بنسائم الرغبة في التسامي فوق الأرض والجمادات والبهائم، ليُصبح ما هو حقاً ويصل إلى مرتبته التي خُلق ليكونها، ليكون مميزاً ومُكرّماً عن سائر مخلوقات عالم الكون والفساد، ويحمل أمانته التي أُرسل من أجلها إلى تلك الحياة الدنيا، مُعمراً للأرض وعابداً وزاهداً وروحانياً.

يسقط «حي» على الأرض مغموراً بنشوته البالغة حتى يُغشى عليه، ثم يفتح عينه تارة أخرى ليبدأ رحلة يومية في تأمل الكون وعمارة جزيرته، قبل أن يتفرغ مرة أخرى لعبادته وانفراده بنفسه وإعمال طقوسه الروحانية، ليصل مجدداً إلى نشوته المبتغاة في التقرب من إلهه.

طرزان و«حي بن يقظان»: قصة واحدة ونهايات مختلفة

بعيداً عن الخوض في مسألة أصل قصة الفرد المولود على الجزيرة المنعزلة، الذي يقضي حياته بين العشب والحيوانات، وهل فعلاً اقتبس الغرب قصة طرزان من القصة الإسلامية التي لم تحظ بنفس القدر من الشهرة «حي بن يقظان» لابن طفيل، فإن المتأمل لكلتا القصتين يجد مقارنة رمزية ومفارقة جمة توضح مدى الاختلاف الفكري والثقافي والحضاري بين القصتين الإسلامية والغربية.

إن طرزان نتيجة نشأته في الجزيرة بعيداً عن رؤية أي بشر على شاكلته، ينشأ حيواناً بالمعنى الحرفي للكلمة، يُقلِّد الحيوانات في الهيئة والصوت والمأكل والمشرب، بينما «حي»، وبغض النظر عن الاسم المُختار لبطل القصة وتفرده، فهو قد تجاوز سريعاً فكرة تقليد الحيوانات في سن مبكرة، ليبدأ رحلة ممتعة وشيّقة من الترقي الفكري والروحاني، ويصل في النهاية إلى الإيمان بصانع الكون وعبادته وتحقيق مراده دون أن يتم تبليغه بالأديان والرسالات، فقد آمن فلاسفة الإسلام بأن الدين فطري والتوصل إلى خالق الكون ممكناً عقلانياً من خلال التدبر والتأمل.

ولم يحفظ لنا الزمان من مؤلفات ابن طفيل، إلا أثراً وحيداً هو «حي بن يقظان»، تلك الرواية الفلسفية الصوفية البديعة، التي كان لها حضورها الكبير في الأدب والفن، حيث نجد أثرها في الثقافة الإسلامية عند السهروردي وعبد الرحمن جامي، وفي الثقافة الغربية عبر ترجماتها الكثيرة إلى اللغات الأوروبية، ومن ثَمَّ، تجلياتها لدى جماعة الكويكرز وفي قصة النقادة لجراسيان، وروبنسون كروزو لدانييل ديفو، وكتاب الأدغال لكبلنج، وطرزان لإدجار بوروز.
«يوسف زيدان» – من كتاب «حي بن يقظان: النصوص الأربعة ومبدعوها».

قصص «حي بن يقظان» في الفلسفة الإسلامية

على الرغم من تصدر أربعة من فلاسفة الإسلام لكتابة قصة «حي بن يقظان» بتنويعات مختلفة، تستعرض فكرة الوصول إلى الإله ومعرفة الخالق بالعقل، وتستخدم الرمزية لتقديم معانٍ فلسفية عميقة، إلا أن إسهام «أبي بكر بن طفيل» في ذلك الشأن يُعد الإسهام الأبرز والأعمق والأكثر شهرة، وقد حازت قصة «حي بن يقظان» لـ«ابن طفيل» عدة سمات جعلتها قطعة فلسفية متفردة، تُمثل درة تاج القصص الفلسفية الإسلامية عبر التاريخ، فهي قصة شاملة لكل مناحي ومحطات الفلسفة الإسلامية، وأهم القضايا التي أثارت الجدل بين الفلاسفة والفقهاء، مثل أصل نشأة الكون، وقضية الفيض الإلهي، وإمكان الفرد التوصل للإله بالعقل فقط أم حاجته إلى الشرع ليرشده إلى طريق الهداية.

ثم تطرق ابن طفيل في قصة «حي بن يقظان» إلى قضية خلافية مهمة بين الفلاسفة أنفسهم، عن التوصل إلى الحقائق بالعقل فقط أم بالعقل والإلهام والفيض الرباني الممنوح لأصحاب الكرامات من الأولياء والصالحين، حيث مزج بن طفيل في رحلة «حي» نحو الترقي، بين رمزية التصوف والبحث العقلي والتجريبي ومراقبة سُنن الكون، فلم يؤمن ابن طفيل بالعقلانية وحدها كوسيلة للتوصل إلى صانع الكون.

غير أن تلك الحال، لما لها من البهجة والسرور واللذة والحبور، لا يستطيع من وصل إليها، أن يكتم أمرها أو يُخفي سرها، وهذه الرتبة هي غير الرتبة التي أشار إليها أبو بكر– ابن باجة- التي ينتهى إليها بطريق العلم النظري والبحث الفكري، فالرتبة التي أشرنا إليها فهي غيرها وإن كانت إياها، بمعنى أنه لا ينكشف فيها أمر، على خلاف من انكشف في هذه، وإنما تغايرها بزيادة الوضوح، ومشاهدتها بأمر لا نسميه قوة إلا على المجاز، إذ لا نجد في الألفاظ الجمهورية، ولا في الاصطلاحات الخاصة، أسماء تدل على الشيء الذي يُشاهد به ذلك النوع من المشاهدة.
«ابن طفيل» – من كتاب «حي بن يقظان».

«حي بن يقظان»: رحلة الترقي ومراحله لدى ابن طفيل

يقدم ابن طفيل بطل قصته «حي» في رحلة ترقيه عن طريق تقسيم تلك الرحلة إلى مراحل رمزية فلسفية، تُنبئ بمراتب الإيمان التي قد يمر بها الإنسان في بحثه عن الحقيقة الإلهية، ففي المرحلة الأولى المُبكرة التي خاضها «حي» بينما لا يزال في طور الشباب المبكر، وقبل تمامه واحداً وعشرين عاماً، وفيها اتسم «حي» بالتجريبية والمادية، حيث بحث في تشريح الحيوانات والنباتات والطبيعة من حوله، وتأمل في أقسامها وأفعالها، بينما ارتقى درجة ليبدأ البحث العقلي والمنهج التأملي النظري في سائر أنحاء عالم الكون والفساد، كي يصل إلى ما فيه من قوانين تُسيِّره ونواميس تضبط حركته.

وفي تلك المرحلة بدأ «حي» في الاهتداء إلى أن سائر الكائنات والأنواع، ليست مجرد أجسام مادية فقط، وإنما تحتوي على شيء زائد على الجسمانية، وحرّكه الشغف نحو اكتشاف ذلك الشيء الروحاني، الذي صارت الظبية التي ربته جسداً لا حراك له، حين فارقها ذلك الشيء وأصبحت مجرد جثة هامدة.

وبذلك انتقل «حي» إلى درجة أعلى في سلم العلم والإيمان لدى ابن طفيل، بأن قرر مفارقة التشريح والتجريب المادي والاعتماد على الحواس ثم العقل، مهتدياً بذلك الشيء الروحاني المتعالي على الجسد والمادة، الذي جعله منذ اللحظة الأولى يبدو مختلفاً عن سائر الحيوانات والنباتات، وأعياه التفكير في سبب ذلك الاختلاف بينه وبين شركاء الغابة، فهو وإن كان يتغذّى مثلهم وينمو ويتنفس، فإنه يملك شيئاً جعله يهتدي إلى التعرف إلى نواميس الطبيعة، ودفعته نحو الاشتياق إلى معرفة مُحرِّك تلك القوى ومُنظِّم شئونها، بذلك القدر من الانضباط والتشابه، رغم ما تبدو عليه من تنافر وكثرة.

وقد توصل «حي بن يقظان» إلى فكرة الروح بعد بحث دقيق ومطول في ما حوله من كائنات وأجسام، وفي ذلك إشارة مهمة في فلسفة ابن طفيل لأهمية البحث والتحليل واستخدام الحواس والعقل، كخطوة أولى وتمهيدية للتوصل إلى الإيمان بالخالق. وبعد أن وجّه «حي» نظره نحو الأرض، جاءت مرحلة التأمل العلوي في ملكوت السماوات والأجسام العُليا، لتكون منبعاً مهماً للاهتداء بالصانع الأول والمُحرك الذي منح «حي» والكون بأسره الحركة والانتظام.

فانتهت به المعرفة إلى هذا الحد على رأس خمسة أسابيع من منشئه وذلك خمسة وثلاثون عاماً. وقد رسّخ في قلبه من أمر الفاعل ما شغله عن الفكرة في كل شيء إلا فيه، وذهل عما كان فيه من تصفح الموجودات والبحث عنها حتى صار بحيث لا يقع بصره على شيء من الأشياء إلا ويرى فيه أثر الصنعة من حينه، فينتقل بفكره على الفور إلى الصانع ويترك المصنوع، حتى اشتد شوقه إليه وانزعج قلبه بالكلية عن العالم الأدنى المحسوس، وتعلق بالعالم الأرفع المعقول.
«ابن طفيل» – من كتاب «حي بن يقظان».

الاستدلال على المصنوع بمعرفة الصانع

وفي فلسفة ابن طفيل رمزية أخرى شديدة الأهمية في ترتيب مراحل التوصل إلى الخالق والمُدبر، وهي أن «حي بن يقظان» في توصله إلى إدراك الخالق قد توصل إلى صانع الكون أولاً ثم اهتدى إلى روحه، حيث استيقن «حي» أنه إنما أدرك ذلك الصانع المنزه عن الأجسام، بذلك الجزء الروحاني منه، الذي هو على صورة الخالق، وتيّقن بأن نفسه الروحانية تلك، إنما هي التي دفعته في تلك الرحلة العرفانية، لأننا تتشوق إلى خالقها، وتدفع الإنسان نحو الترقي عن الجسد والنفور من المادة ليتقرب من خالقه، وأن تلك النفس لا تفسد ولا تموت كالجسد، وهي مناط تميزه عن سائر الحيوانات والنباتات، وبها وحدها النجاة من الهلاك.

ولما كان الجسد فانياً لا محالة، فلا حاجة إلى الاهتمام بمتطلباته المادية الخسيسة، وإنما يجب الاعتناء حقاً بالنفس الروحانية الخالدة الباقية، وذلك الاعتناء هو الذي يمنحها الحياة، فبطل القصة «حي» لأنه تمكن من الترقي الروحاني، أمّا منْ خالف تلك الرؤية فهو ميت وإن كان جسده لا يزال في حركة وتفاعل، لأنه أمات روحه في سبيل مادة فانية.

للعُزلة كلمة أخيرة

وبعد رحلة شاقة كرّس فيها «حي بن يقظان» أربعة عقود من حياته لكي يتوصل بعقله وقبله إلى المُدبر الأعلى والخالق الأسمى، حاول «حي» نشر أفكاره وتأملاته في جزيرة مجاورة له بعد أن اكتشف وجود أناس على شاكلته، لكنه رجع يائساً إلى جزيرته، بعد أن رفضه الناس وتمسكوا بمعارفهم وآرائهم عن الدين، فلفظوه ونبذوه، فرجع آفلاً إلى جزيرته، طالباً للعزلة والعبادة والتأمل، في إشارة من ابن طفيل إلى أن العزلة التعبدية الصوفية هي سبيل النجاة الأجدر بالاتباع، وأن مخالطة الناس قد لا تجدي نفعاً، بل قد تكون سبباً في الفتنة، ليقضي «حي» ما تبقى من عمره في جزيرته منعزلاً متعبّداً.