ولَكِنَّ الفَتى العَرَبِيَّ فيها …… غَريبُ الوَجهِ وَاليَدِ وَاللِسانِ

في بقعةٍ نائيةٍ من أرض فارس، كانت دماء بشرية ما تزال تغلي، بينما تمتزج بالثرى لآخر مرة في العمر. قبل دقائق فحسب، كانت تلك الدماء تغذي واحدًا من أكثر العقول فرادةً في التاريخيْن العربي والإسلامي، وتمدُّ بأنفاسِ الحياةِ قريحةً لم يظفرْ الشعر العربي بمثلها في السابقين أو اللاحقين … إنها دماء أبي الطيب المتنبي.

قطعوا عليه الطريق، وامتشقوا الموتَ بأيديهم، وانفجرت الأحقاد من عيونهم، وحُجَّتهم – كما تخبرنا الرواية الشهيرة – أبياتُ هجاءٍ أسرف المتنبي فيها في الانتقاص من أحدهم، ونسبة تلك الأبيات الركيكة للمتنبي محلَّ شكٍّ كبير. لكن يبدو أن هناك من أخذ قرارَه بإبعاد هذا الرجل الخطير إلى الأبد بأي حجة.

 كان المتنبي فارسًا لا يُشَقُّ له غبار، ومقاتلًا صنديدًا، شارك بسيفه – كما بمهجته وبقلمه – في الحروب ضد الروم إبان ملازمته لسيف الدولة الحمداني، وكان يمتطي جوادًا أصيلًا لا يُبارى، نالَ نصيبًا حسنًا من مدائح راكبه. فكان بإمكانِه الفرار به إلى مأمَنٍ لا يُدرِكه فيه هؤلاء القتلة، لكن ليقضيَ الله أمرًا كان مفعولًا. 

ومهجة مهجتي من همِّ صاحبها …. أدركْتُها بجوادٍ ظهرُهُ حَرَمُ
رجلاهُ في الركضِ رجلٌ واليدانِ يدٌ …. وفعلُهُ ما تريدُ الكفُّ والقَدَمُ

آثر المتنبي أن يموتَ على بيِّنةٍ، وأن يخلِّد كلماتِه وغربته بالتوقيع عليها بالدم، فيموتُ غريبًا شريدًا، في بقعةٍ مقفرة من بلاد فارس، وهو العربيُّ المتعصب لعروبته، والذي ضاق ذرعًا بضخامِ الأجساد، صغار العقول، من حكام عصرِه الأعاجم، حتى أغرقَ في العنصرية ضد العجم ككل، يقول: إنَّما الناسُ بالملوكِ ولن ….. تفلحَ عُربٌ ملوكُها عجمُ!

وأبت روحه الوثَّابة أن تنعتقَ من أغلال الجسد والأقدار غير المؤاتية إلا بضربات السيوف، التي تمنحُ للأبطال أجلَّ المصارع..

غيرَ أن الفتى يُلاقي المنايا كالحاتٍ .. ولا يلقى الهوانا
ولو كانت الدنيا تدومُ لحيٍّ ….. لعددْنا أضلَّنا الشجعانا
فإذا لم يكُن من الموت بُدٌّ …. فغايةُ العجزِ أن تموتَ جبانا

ولعلَّ أبرز ما يُمكن أن نلخصَ به تراث المتنبي، وبصمته المميزة، هو شعوره السرمدي بالغربة، والتي لم تكن غربة واحدة، إنما غرباتٌ كثيرة، تحتلُ روحه حيثما حلَّ أو ارتحل. ولعل تلك الغربة هي التي جعلت من المتنبي مسافرًا أبدًا، من العراق إلى الشام فمصر فالعراق ففارس، حيث نال منه مصيرُه المقسوم. 

سنتجوَّل في السطور التالية بين غربتيْن أو أكثر للمتنبي، وسننظر في مرآتهما معًا، لنتفاجأ بأنه ليس على صفحةِ المرآة سوى وجوهنا نحنُ، متأخري العرب التائهين في قاع نهرِ الزمن، فكأنَّ المتنبي بيننا، أو كأنَّ غربتنا كانت في صُلبِ غربته، تنتظر توقيت الميلاد المحتوم.

غربة بين الملوك

أرانبُ غير أنَّهُم ملوكٌ ــ…..ــ مُفتَّحَةٌ عيونُهُم نيامُ!

إذا استفْتيْنا مجموعة كبيرة من العرب، عن رأيِهم في المتنبي، فستجيبنا الكثرة الكاثرة منهم بأنه كان شاعرًا مُجيدًا، لكنه كان يمتدح الحكام نفاقًا من أجل العطاء. وهذا قَدَر المتنبي، أن تكون غُربتُه خالدةً كفرائد شعره، فينتهي الحال به – وهو عدو الملوك – وبثورتِه الطويلة على زمانِه ومكانِه وناسهما، أن يُحشَر في وعي الناس، في نفس الدرَك الأسفل مع شعراء السلاطين، والمدَّاحين، حملة المباخر.

لا يعرف هؤلاء أن الشاب أحمد بن الحسين – الذي طوَّقت كنيته ولقبه أبو الطيب المتنبي الآفاق في حياتِه وفي خلوده –  في ميعة صباه، وفي ختام واحدة من بواكير قصائده العملاقة، أعلنَ حربًا شعواء على الملوك  جميعًا، وتوعَّدَهم جميعًا بالهلاك العاجل والآجِل بسيوفٍ أحد من البصر الثاقب.

ميعادُ كلِّ رقيقِ الشفرتيْنِ غدًا ….. ومن عصى من ملوكِ العُربِ والعجَمِ

كان المتنبي ثورةً طويلةَ اللسان، حادة البيان، تمشي على قدميْن. وكان بإحساسِه المرهف، وعقله الاستثنائي، يدرك جيدًا حجم المأساة التي وقعت فيها الأمة بين مطرقة أعدائها الخارجيين المتربِّصين بها الدوائر، وسندان الحكام الذين لا يملكون من مواهب الحكم سوى الطمع فيه، وأغرقوا الأمة في طوفانٍ من مظالمهم. فكان صدره يحتقن بالرغبة في إشهار السيوف والرماح على هؤلاء الطغاة المتجبرين.

عليَّ لأهلِ الجوْر كلُّ طمرَّةٍ …. عليها غلامٌ ملءُ حيزومِهِ غِمرُ

يديرُ بأطرافِ الرماح عليهمُ ….. كؤوسَ المنايا حيثُ لا تُشتَهى الخَمرُ

ولعل أبرز ما يثير الريبة حول المتنبي في باب الملوك، هو امتداحه كافور الإخشيدي بقصائد عدة، ثم انقلابه عليه عندما لم ينلْ مرادَه منه، ومن ثمَّ استهدافه بطائفة من أقذع الهجائيات العربية، والتي للأمانة كانت تنطوي على مبالغاتٍ غير مقبولة، إذ لم يكن كافور – باستقراء سيرته التاريخية وكفايته السياسية – يستحق كل هذا التقريع المُذل.

لكن لم يفُتْ المتنبي أن يدافع عن نفسه في هذا الشأن، فقدَّم اعتذارًا شديد اللهجة، نقل فيه المعركة إلى أحد همومه الكبرى، وهي نقمته على عموم الناس المذعنين لزمانِ الأقزام (أو من يراهم هو أقزامًا).

وشعرٌ مدحتُ بهِ الكركدَنَّ ….. بين القريضِ وبينَ الرُّقى
وما كان ذلك مدحًا لهُ ….. ولكنَّهُ كان هجوَ الورى!

والكركدنُّ هو وصفٌ لكافور انتقاصًا منه، وعنصريةً على لونِ الأسمر. ورسالة الأبيات، أن بروز أمثالِ كافور، حتى ينالوا المديح، هو أبلغ ذم على انحطاط أقدار الأمم التي تسيَّدها هؤلاء، فلا تعاتبوني – وأنا الذي استخفَّني الطموح من أجلي وأجلكم – لاضطراري لامتداح هؤلاء في سبيل مشروعي الكبير لاستئصال ملوك زماني الذين سوَّدتوهم عليَّ وعليكم بغيرِ استحقاق.

غربة الهم الكبير

والهمُّ يخترمُ الجسيمَ نحافةً ….. ويشيبُ ناصيةَ الصبي ويُهرِمُ

لم يذهب أبو الطيب بعيدًا عندما ذكر أن ذا العقل يشقي في نعيم المعرفة بعقله، بينما يرفل الجاهلون في تيه حيواتهم الرثَّة. لقد كانت حياة المتنبي تجسيدًا كاملاً لهذا، فلو لم يكن من أصحاب العقل والوعي والهموم الكبرى، لكان بإمكانه أن يعيشَ بموهبته الشعرية في سعادةٍ متصلةٍ يستكثر فيها من الأموال والحضور في موائد الملوك، لكن طموحاته كانت له بالمرصاد دائمًا وأبدًا، لتفسد عليهِ كل استقرارٍ مؤقتٍ، وتدفعه للرحيل مجددًا عبر الفيافي والقفار، مطارَدًا من شانئيه، ومطارِدًا ما يشاء.

تركت تلك الغربة بصمتَها في نفس المتنبي وشعره، فأفسدت علاقته بدنيا الناس، وأغرقت قصائده كثيرًا في دواماتِ الحزن ورثاء الذات، واحتلت الشكوى رحاب قريحته، حتى شكا كثرة شكواه.

لَحا اللَهُ ذي الدُنيا مُناخاً لِراكِبٍ …… فَكُلُّ بَعيدِ الهَمِّ فيها مُعَذَّبُ
أَلا لَيتَ شِعري هَل أَقولُ قَصيدَةً ….. فَلا أَشتَكي فيها وَلا أَتَعَتَّبُ

صنعت الهموم العظيمة التي تجتاح عقل المتنبي وقلبه حاجزًا سميكًا بينه وبين معظم معاصري زمانه ومكانه، فكان يشكو دائمًا من رضاهم بحياة الخنوع والخضوع وضعف الهمة، وعجز الطموح، فكان يعتبر نفسه غريبًا بين هؤلاء، يحجبه عنهم الفارق الشاسع في مراد النفوس ومطامحها، فيعتبر وجوده بينهم خطأ يثير العجب العُجاب.

ولم أرَ مثلَ جيراني ومثلي ….. لمِثلي عندَ مثلِهِمُ مُقامُ

غربة في سجن الجسد

وإني لمِنْ قومٍ كأنَّ نفوسَهم …. بها أنَفٌ أن تسكُنَ اللحمَ والعظما 

كان المتنبي يضنُّ بعَظَمة روحه أن تظلَّ رهن اعتقال الجسد الفاني، وألا تُبذَل في سبيل غاياته الكبرى. وكلما استغلقت الآفاقُ في وجه طموحه السرمدي، استوحش من الدهر وأهله، وتفاقمت غربة الذات، وتاقت نفسه لخوضِ معركةٍ فاصلة مع كل ما يعوق طموحاته العريق، ولو كان ثمن ذلك هو روحه نفسها، فلو لم يكن للمجد من سبيلٍ سوى أن تلِغَ رؤوس الرماح في دمائه، فهذا خيرٌ من حياة الخمول وغربة الأحلام التي لا تختلف كثيرًا عن عيش الأنعام والسوائم.

رِدي حياضَ الردىَ يا نفسُ واترِكي ….. حياضَ خوفِ الردى للشاءِ والنعَمِ
إن لم أذَرْكِ على الأرماحِ سائلةً … فلا دُعيتُ ابنَ أمِّ المجدِ والكرَمِ

ولذا فقد تغنَّى المتنبي بالشجاعة المفرطة في شعره، وجعل منها مثالًا وغاية، وجسَّد نفسه في مشاهد عديدة منها في قصائده الفريدة، عظَّم فيها من قيمة المخاطرة الشديدة بالنفس في سبيل الغايات الكبرى. مخاطرةً تدفع الآخرين للظن بأن صاحب تلك التضحية لا بد أنه يمتلك أكثر من روح، أو أنه يكره نفسه إلى حد الرغبة الجامحة في الانتقام منها.

وأقدمتُ إقدامَ الأتي كأنَّ لي ….. سوى مُهجتي أو كان لي عندها وِترُ

 ولعل هذا التفسير وذاك قد تجسدا في المتنبي، إذ يبدو أنه وقد بذل روحه قبل أكثر من ألف عام، كان يعرف يقينًا أن روح شعره ومضامينه الخالدة ستظل حيةً وتتجدد في وعي أجيال وأجيال تحيا نفس غربته العظيمة، وتتغنى بآلامها وآمالها.

غُربتُه وغُربتُنا

أنا في أمةٍ تداركها اللهُ ….. غريبٌ، كصالحٍ في ثمودِ!

وجيلُنا، جيلُ الشباب العربي في عصر سقوط الربيع واغتيال الأحلام، وطغيان الخريف وعُلو الأوهام، يمرُّ بغربةٍ مركَّبة، كالتي قاساها أنبياء بني إسرائيل قبل الميلاد، وعاناها شاعر العربية الأول قبل 11 قرنًا. وليس هذا مُستَغربًا، فالداء المتأصِّل هو هو، والظُلم المتسيِّد لا يزال مهيمنًا، وأقدار النبلاء ما تزال مُستباحة.

في كل أرضٍ وطِئتُها أممٌ ….. تُرعَى بعبدٍ كأنها غنمً!

وأشد ما يعزز تلك الغربة الموحشة، هو الشعور بالغُبن وغمط الأقدار. لقد كنا نستحق مصائر أفضل، ونهاياتٍ أنصع بياضًا، أو على الأقل أرق سوادًا. فمن هزمونا، وسحقوا الغد تحت أقدامهم، لا يستحقون مثقال ذرة من انتصارهم العريض.

واقفًا تحتَ أخمصيْ قدرِ نفسي ….. واقفًا تحتَ أخمصيَّ الأنامُ 

ولدينا فوق هذا غربة العجز وجلد الذات. لقد قسا المتنبي على نفسه وعلينا قبل 11 قرنًا، عندما اعتبر الفشل في تحقيق المراد علامة على سقوط الهمة، وضعف العزيمة. 

ليسَ عزمًا ما مرَّض المرءُ فيه ….. ليس همًّا ما عاقَ عنه الظلامُ

وهناك أيضًا غُربة الخذلان من البعيد والقريب، ولذا فلم يعُد لأحدنا ثقة إلا في ذاته، ولا صديق لنا إلا نحن، أو ما بقي منا. وما عاد للكلمات المعسولة، وللمثاليات الجوفاء نصفُ وترٍ تدقُّ عليه في قيثارة قلوبنا التي أوشكت أن تنسى الألحان.

خليلُك أنتَ، لا من قُلتَ خِلِّي …. وإن كثُرَ التجمُّلُ والكلامُ

وإذا خصَّصنا الكلام أكثر، فلن يجد معظم الشباب، لا سيَّما أصحاب الطموح منهم، ما يُعبِّر عن الجو النفسي المسيطر عليهم في غربتهم داخل الوطن، بينما عيونهم تتجه إلى بلاد الله الواسعة طلبًا لحياة كالحياة، خيرًا مما جادت به قريحة المتنبي بينما كان شبه مأسور في عهد كافور؛ عائد قليل وحُسَّاد كثيرون، وقلبٌ عليل يئن تحت وطأة آمال عِراض.

قليلٌ عائدي، سَقِمٌ فؤادي .…. كثيرٌ حاسدي، صعبٌ مرامي!

ولكن لإلحاح ذكريات الأيام الخوالي على قلوبنا وعقولنا، ستظل غربتنا قلِقة في زمن الهزائم، لا يقر لها قرار، لتعتملَ نفوسنا في كل لحظة – يقظة ومنامًا – بالأمل في تحقيق بعثٍ شخصي وعام، يعيد تنظيم النواميس، ويهز أركان البلاد المتحجرة.

أقَرارًا ألذُّ فوقَ شرار ….. ومَرامًا أبغي وظُلمي يُرامُ؟!
حتى تشرقَ الحجازُ ونجدٌ ….. والعراقانِ بالقنا والشامُ

وإلى أن تتجسد تلك الآمال على الأرض، وتصنع الواقع الذي نستحق، سنظل أوفياء لغربتنا، ولمن تجسَّدت في حياتهم تلك الغربة كأبي الطيب.