نستكمل في هذا التقرير ما بدأناه في الجزء الأول حول أبرز القضايا السياسية بعد أحداث 30 يونيو/ حزيران، حيث نتناول أبرز الانتهاكات التي تمت خلال المحاكمات. فمع إقحام القضاء -بهذا الشكل الواضح- في الحياة السياسية غير المستقرة؛ كان من الطبيعي أن تأتي الحسابات السياسية على حساب الإجراءات التي تضمن عدالة القضاء وحياديته في مواجهة مختلف مكوّنات المجتمع.

وبناءً على ذلك يمكن الإشارة إلى عديد من الانتهاكات التي شهدتها معظم المحاكمات في الفترة التالية لعزل الرئيس «محمد مرسي» والتي أثّرت بشكلٍ كبير على مسيرة العدالة، وأضرت بصورة القضاء لدى قطاعات كبرى من المصريين، وأدّت إلى تعالي الانتقادات الأجنبية.


انتهاكات المحاكمات

شهدت مصر بعد عزل «محمد مرسى» موجة غير مسبوقة من المحاكمات ذات الطابع السياسي والعديد من الأحكام الغريبة القاسية، والانتهاكات الواضحة التي أدّت إلى اهتزاز صورة القضاء كسلطة مستقلة قائمة على تحقيق العدالة دون تمييز؛ بل إن القضاء أصبح خصمًا وحكمًا في الجزء الأكبر من هذه الاتهامات.

الأدلة والتحريات

اتسمت أغلب المحاكمات التي تمت للمعارضين بعد عزل مرسي بالاعتماد على أدلة ضعيفة جاءت في معظمها مبنيّة على تحريات الجهات الأمنية، التي هي أساسًا في حالة خصومة مع هؤلاء المعارضين. على سبيل المثال؛ ما حدث في قضية قتل اللواء «نبيل فراج».

كما أن الاعترافات التي تتوصل إليها هذه الجهات مشكوك في صحتها إلى أبعد الحدود. حيث تأتي هذه الاعترافات نتيجة عمليات التعذيب التي يتعرض لها المتهمون، والتي تحدث عنها حتى الإعلام الموالي للنظام، كما فعلت جريدة الأهرام، بالإضافة إلى الاعتقالات غير القانونية التي ترقى إلى مستوى الاختطاف، والذي ينسف فكرة دولة القانون وبالتالي فكرة المحاكمات العادلة.

تلفيق التّهم والعدالة المتسرعة

بالنسبة للاتهامات؛ فقد أصبحت نفس الاتهامات حاضرة في أغلب قضايا المرحلة حتى أن المتابعين لم يعودوا بحاجة إلى الانتظار للتعرف على هذه الاتهامات، بل يقومون باستنتاجها دون عناء أو مشقة في التفكير. لوحظ ظاهرة تلفيق التهم بالجرائم المختلفة التي تقع بأشخاص يكونون في حيازة الدولة بالفعل، قبل وأثناء حدوث الجرم، مثلما حدث في قضية «عرب شركس».

كما أصبحت ظاهرة الحكم بعد جلسات معدودة -التي لا تكفي حتى إذا ما تم تخصيصها لمتابعة الإجراءات والقواعد الشكلية للمحاكمة-؛ سِمة مقترنة بمحاكمات فترة ما بعد عزل الرئيس «محمد مرسي». وقد نتج عنها أحكام شديدة القسوة وصلت إلى الإعدام، والمؤبد في مناسبات كثيرة دون الاستماع إلى المتهمين أو الدفاع الحاضر، وتقدم قضيتا أحداث «مركز مطاي، والعدوة» في المنيا مثالين واضحين على ذلك.

المحاكمات الانتقائية

أصبحت ظاهرة تمرير بعض القضايا من النيابة العامة إلى القضاء بسرعة كبيرة إحدى السمّات بعد أحداث 30 يونيو/ حزيران، في حين أن قضايا أخرى لا تفارق أدراج مكاتب النيابة العامة. كما أن بعض المحاكمات يتم التمييز فيها بين المؤيدين والمعارضين مثلما حدث في قضية «قتل متظاهري الاتحادية» حين تم استبعاد ضحايا الإخوان المسلمين من القضية بالرغم من كونهم جزءًا أساسيا فيها، وتم فقط إضافة المجني عليهم المحسوبين على معارضي الإخوان مثل الصحفي «الحسيني أبو ضيف».

من دون محام

شهدت العديد من القضايا عدم حضور محامين للدفاع عن المتهمين. كما أن هيئة المحكمة لم تقم بتعيين محامين عن هؤلاء المتهمين؛ بل وفي بعض الأحيان تم منع دفاع المتهمين من دخول قاعة المحكمة. وقد أكّدت محكمة النقض على أن هذا سبب رئيسي من أسباب قبولها للطعون على الأحكام في عديد من القضايا، وعلى رأسها قضية أحداث مركز «العدوة» بالمنيا.

العقل والمنطق

ظهرت العديد من القضايا التي لا تتسم بالقدر الأدنى من المقبولية والمعقولية؛ وصلت إلى حد اتهام المكفوفين بقنص قوات الشرطة، واتهام سياسيين بسرقة شقق سكنية، واتهام فتيات بحمل أسلحة ثقيلة وترويع الآمنين وغيرها من الاتهامات!. تشير هذه الاتهامات إلى المستوى الذي وصلت إليه السلطة في مواجهة معارضيها دون اعتبار لأي قواعد منطقية بسيطة، فضلًا عن الجدية التي تؤخذ بها هذه الاتهامات.

المبالغة في العقوبات

ظهرت أحكام شديدة القسوة بالمخالفة لأبسط القواعد القانونية التي أشار إليها كثير من رجال القانون. حدث هذا -على سبيل المثال- حين حكمت المحكمة على 11 شخص بأحكام بين 57 و88 سنة في المنيا، وهي مجموع عقوبات عدد من التهم سجّلت أكبر عقوبات في تاريخ القضاء المصري.

غير أن الخبراء بالقانون يؤكدون على أنه كان من المُفترض أن يحكم القاضي بعقوبة أكبر تهمة وليس بتجميع عقوبات التهم جميعها. بل إن الأمر وصل إلى حد الحكم على أطفال تحت سن 18 بالإعدام، كما حدث في قضية أحداث «العدوة» في المنيا، وهو الأمر الذي علّقت عليه محكمة النقض أيضًا عند قبولها للطعن الذي قُدم في القضية.

وعلى أي حال، فإن هذه الانتهاكات والأخطاء في المحاكمات قد تزايدت بشكلٍ كبير منذ تشكيل دوائر الإرهاب منذ نهاية 2013. أدّت تلك الانتهاكات إلى قبول محكمة النقض لأغلبية الطعون التي قُدمت إليها. قبول هذه الطعون هو الدليل الأكبر على كون المحاكمات قد شابتها أخطاء جسيمة، كوْن ذلك الاعتراف بالخطأ قد جاء من داخل أعلى محاكم القضاء العادي في مصر.

أدّت تلك الانتهاكات أيضا إلى تنديدات دولية واسعة أشارت بوضوع إلى المخالفات الإدارية والانتهاكات الجسيمة التي شهدتها المحاكمات بحق المعارضين، ولا أدل على ذلك من أن المحاكمات في مصر منذ عزل «مرسي» تُوصف على إطار واسع بأنها «محاكمات سياسية» تغيب عنها أبسط مبادئ وقواعد القانون.

في النهاية؛ أدّت هذه الحالة إلى انتقادات داخلية وخارجية واسعة، بل إن المؤسسة القضائية ذاتها اعترفت بهذه الانتهاكات بشكلٍ ضمني من خلال أحكام محكمة النقض، التي قبلت أغلبية الطعون التي قدمها المتهمون.

وبالرغم من تأكيد الدولة في كل مناسبة على أن القضاء مؤسسة مستقلة؛ فإن الكثيرين يذهبون إلى أن هذه المحاكمات والانتهاكات لا تعدو كونها نتيجة واضحة لهيمنة السلطة التنفيذية على القضاء بعد أن نسجت خيوطها حول سلطة التشريع.