دائمًا، ترتبط مرحلة الطفولة المبكرة لأبنائنا في أذهاننا بالإرهاق البدني. أما عند الحديث عن مراهقتهم، فأول ما يتبادر إلينا هو إرهاق أيضًا، ولكنه من نوع آخر، هو الإرهاق الذهني.

بشكل ما تتشابه مرحلة الطفولة المبكرة لدى الطفل بمرحلة مراهقته. في المرحلتين يمر الطفل بنوبات الغضب العنيفة، وعند غير مبرر، الانفعالات الحادة واهتياج المشاعر، سواء مشاعر إيجابية أم سلبية. وجه التشابه الأكبر هو أن في الطفولة المبكرة وفي المراهقة كليهما يدور تطور الطفل حول استقلاليته، وهذا لا يحدث بشكل هادئ، ولكنه يحدث بشكل عاصف وقوي.

خلال مراحل تطورهم هذه نشعر أننا فقدنا السيطرة ولا نملك من أمرنا شيئًا. ففي هاتين المرحلتين طبيعة سلوك الطفل قد تتعارض مع معاييرنا عن الصواب والخطأ، البيئة الخارجية من حولنا تكون أشد تأثيرًا على أفكارهم وأفعالهم، وحيث إننا لن نستطيع التغيير من طبيعة الطفل، وأيضًا البيئة الخارجية من إعلام وأصدقاء ومجتمع هم خارج نطاق سيطرتنا، فإننا من الممكن أن نفهم أكثر عن أطفالنا لنستطيع التواصل معهم، وبالتالي التأثير بأثر عميق داخلهم.


ما الذي يحدث في المراهقة؟

يشهد الطفل في مرحلة المراهقة تغيرات تطرأ عليه نفسيًّا وجسديًّا، فأفكاره ونظرته إلى الأشياء تتغير، وميوله تتغير، حتى جسده الصغير الذي يألفه يجده يتحول رغمًا عنه لشكل مغاير تمامًا، ويكتشف في نفسه أشياء لم يعتدْها كما لو كان شخصية جديدة تنبت له كل حين وآخر، كلما حاول التأقلم مع إحداها فاجأته الأخرى، لذلك قد يتقلب مزاجه سريعًا ويصبح سلوكه أكثر حدة وينجذب للتقليعات الجديدة التي تلفت الانتباه، لعل هذا يسهل عليه قبوله لذاته مع كل تغير يفاجئه.

في نظرية إريك إريكسون Erik Erikson عن النمو النفسي والاجتماعي يطلق إريكسون على المرحلة بين 12 و18 سنة «الهوية مقابل الضياع»، ويقول إن الانتقال من مرحلة الطفولة إلى مرحلة البالغين يرافقها رغبة في الانتماء لمجتمع يتلاءم الفرد معه، ولذلك هي مرحلة لاكتشاف هوية خاصة من خلال استكشاف مكثف لكل القيم والمعتقدات والأهداف، لذلك التخبط الظاهر على سلوك المراهق لا يكون عشوائيًّا، ولكنه بمثابة تجارب متعددة متتالية للتجربة والخطأ لاستخلاص تركيبة شخصية مميزة: من أنا؟ ما هي قيمي ومعتقداتي؟ ما هو دوري في الحياة؟

أهم ما يشغل طفلك المراهق هو:

الجنس الآخر

لعل أبرز ما يميز مرحلة المراهقة هو الميل الفطري للجنس الآخر، تلعب الهرمونات دورًا كبيرًا في هذا الميل، في طور التحول من الطفولة للبلوغ هذا أمر لا يمكن تجاوزه أو تجاهله، طبقًا لتقسيم سيجموند فرويد لمراحل الحياة. ففي تلك المرحلة، تتحول غريزة الطفل التي كانت موجهة لاستكشاف ذاته من قبل للرغبة في استكشاف الجنس الآخر والدخول لعالمه.

يحدث الاضطراب عندما يمر الطفل بهذه المرحلة الطبيعية في مجتمع له معايير غير صحية للتعامل مع الفطرة، سواء للذكور أو الإناث. رفض طبيعة المرحلة التي يمر بها الطفل لن يغيّر ميوله ولا رغباته، بل سيجعله يحاول التطرق لهذا العالم، ولكن في الخفاء بعيدًا عن الأعين، مما يجعله عرضة للتخبط أو الضرر النفسي لاستقاء المعلومات من مصادر مضللة. البديل الصحي هو التحدث مع الطفل المراهق عن طبيعة مشاعره وتقبلها، بجانب ضبط بوصلته وتزويده بالمعايير الأخلاقية والدينية التي تهذب رغباته دون كبت أو رفض لها.

الاستقلالية

في مرحلة المراهقة سيرفض طفلك مرارًا مشاركتك له في أنشطته اليومية. سيميل لقضاء الوقت مع رفاقه أكثر من قضائه مع العائلة. ستجده يجلس بالساعات أمام الكمبيوتر والأجهزة الذكية كأنه ينسحب تدريجيًّا من حياته معكم لحياة متوحدة تخصه وحده ولا يربطها بالعائلة أي شيء. هذا ليس رفضًا لك أو لأسرته بشكل شخصي، ولكنه سعي منه للحصول على استقلاليته وتكوين هوية واهتمامات شخصية.

لا تحاول إجباره على مشاركة الأسرة أو منعه من ممارسة أنشطة مستقلة؛ ولكن بدلًا من ذلك ساعده للعودة لمدار الأسرة عاطفيًا أولًا، ثم جسديًّا بعد ذلك. واسعَ لاختيار الوقت المناسب للحفاظ على اتصالكم معًا كأسرة. إذا كنتم تركبون معًا السيارة كأسرة للذهاب لمكان ما، فهذا وقت مناسب للتواصل سويًا. أما عند استخدامه الهاتف للتحدث مع أحد أصدقائه، فهذا ليس الوقت المناسب. من حقك كولي أمر لطفل مراهق أن تشاركه في وضع قواعد محددة للحفاظ على أمانه، وأن تطلب منه المعلومات التي تطمئنك عليه، ولكن من حقه أيضًا ألا تسيء استخدام تلك المعلومات وأن ينال قدرًا من الحرية التي يطلبها.

التواصل

في التواصل مع المراهق الاستماع له أهم من الكلام. من خصائص هذه المرحلة الميل للكتمان والاحتفاظ بالأسرار، لذلك لحظات البوح هذه ثمينة للغاية. التعامل معها بشكل خاطئ مرة واحدة كفيل بالقضاء عليها. عكس ما هو شائع، فإن المراهق يحب التواصل ويميل له، ولكن بمعايير تضمن له مساحة أمان، وبمعدل مناسب لما يريد البوح به. إجباره على الاعتراف بشيء يميل لكتمانه لن يقربه لنا، ولكن سيجعله أكثر حرصًا لاحقًا على الهرب من هكذا موقف بالتباعد أكثر.

أيضًا، إذا أردت التواصل مع طفلك المراهق فاحذر التشتت عنه لأنه يمكنه في لحظة أن يعود إلى عالمه الخاص إن وجدك مشغولًا ولا تعيره الانتباه الكافي.

الخصوصية

في مرحلة المراهقة تصبح الخصوصية أولوية للطفل، فتجده يطالبك مثلًا بغرفة خاصة له وأدوات تخصه وحده، وستجده يطالبك بمصروف خاص به من حقه التصرف فيه كيفما شاء دون الرجوع إليك. نحن نقاوم هذه الطلبات خشية منا أن يخطئ الطفل ولسنا بجواره، فلن نستطيع وقتئذ مساعدته؛ ولكن التصرف بحكمة وتكوين الخبرات يتطلب أن يخطئ الإنسان ثم يتحمل نتيجة خطئه. إنها مهارة كأي مهارة أخرى تحتاج للتدرّب، فنحن البالغين لنكوّن وعيًا خاصًّا بنا، اضطررنا للتعامل مع المواقف الصعبة، فتألمنا وفقدنا السيطرة العديد من المرات؛ ولكن في أغلب المرات لم نكن مستعدين لهذا. فلنساعدهم أن يستعدوا لهذا مبكرًا مع وجودنا بدور الناصح لا المتحكم في كل شيء، ونجعل تدخلنا في أضيق الحدود حتى يتسنى لهم فرصة النضوج والاستعداد ليكونوا بالغين مسئولين.

الانتماء للمجموعة

عند بحث المراهق عن هويته يحتاج بشدة إلى الانتماء لمجموعة تشبهه ولها نفس الاهتمامات وتمر بنفس التحديات. مجموعات الفتيات غالبًا يجذبهن العالم البرّاق للنساء من موضة وقوالب الجمال التي تبثها الميديا باستمرار، فتجدهنّ يرغبن في اختيار ملابس لا تناسب سنهن والمطالبة بالسماح باستخدام مستحضرات النساء من عطور ومكياج. يمثّل المجتمع ضغطًا عليهن لأن يكنّ أكثر جاذبية، وأحيانًا قد يضر هذا بعلاقة الفتاة بجسدها ومظهرها، وقد يكون هذا هو سبب جنون الفتيات الصغيرات بأخذ عشرات صور «السيلفي» يوميًّا سعيًا منهن لتقبل أنفسهن في صراع الموضة المحموم هذا.

الفتيان أيضًا لم يسلموا من صراع التنافس هذا، ولكن من زاوية أخرى، فالضغط الواقع عليهم يكون لإثبات الفتى تميزه وتفرده وخفة ظله واستعداده للمخاطرة والتجارب الجديدة. من هنا تظهر معظم صراعات الأهل مع طفلهم المراهق عندما يجرب التدخين أو يركب دراجة بخارية أو التعارك مع معلميه والتطاول عليهم. التعامل بالقوة لا يصلح في معظم تلك الصراعات، التهديد بالمراقبة والعنف والتوجيه الشديد والقفز لحل مشاكل المراهق يزيد الأمور سوءًا معه.

ولكن الحل يكمن في التأثير، والفرق عظيم بين السيطرة والتأثير؛ غرسك القيم في نفس طفلك في السنوات السابقة لم يضع هباءً، ولكن يحتاج إلى الحكمة لنفض الغبار عنه دون أن تهدد استقلاله أمام ذاته. دور الأب – أو من يحل محله – له ثقل عظيم في تلك المرحلة، فهو من يغذّي ثقة الفتاة في نفسها وتميزها بجمالها الخاص، وتحمل استعراضاتها الدرامية بتفهم وسعة صدر، وهو أيضًا من يلعب دور القدوة ومثال الرجل الحقيقي للفتى.

كل شيء متوقع حدوثه في فترة المراهقة، ولكن طفلك ليس الطفل الوحيد الذي يمر بهذه التقلبات العنيفة، وأنت لست وحدك لأن كل هذا من سمات تلك المرحلة. قد يكون المراهق الذي يعيش معك في المنزل مصدرًا للقلق والإحباط والخوف عليه من الانحراف أحيانًا، بالإضافة إلى الضغوط المادية الناتجة عن تطلعاته البالغة. ولكن تلك السنوات أيضًا تحمل بين طياتها كثيرًا من المرح والمتعة والفخر والتقارب.

ما سيعيد طفلك لقارب الأمان دائمًا هو مدى قوة العلاقة بينكما، وجودة القواعد والالتزام بها من كليكما، وحسن استغلالك لتلك اللحظات الرائعة التي تجمعكما للتأثير فيه بعمق.