لم يصدر مكتب التحقيقات الفيدرالي بيانًا يوضح فيه التفاصيل، لكن الرئيس الأمريكي قال إنهم فتشّوا كل شيء، حتى خزانة ملابسه. حادثة غريبة تُضاف لسجل حوادث دونالد ترامب، الرئيس الأمريكي السابق. لكنها هذه المرة لم تكن مع جهة خارجية، ولا مع جهة تحقيق داخلية، بل كان الأمر مداهمة مفاجأة لمنتجعه ومكان إقامته، تمامًا كما يحدث مع المجرمين والمشتبه في تورطهم في قضايا أمن قومي.

لا أحد يعرف تحديدًا التهمة التي من أجلها تم التفتيش، ولا عن أي شيء يبحث مكتب التحقيقات في خزانة ترامب، لكن التكهنات المتواترة تشير إلى قضية اتهام ترامب بعملية إتلاف واسعة لوثائق سرية قبل مغادرته للبيت الأبيض. وربما تبادر لذهن رجال التحقيق أن ترامب لن يجد مكانًا أفضل من البيت الأبيض الشتوي لتخبئة مستنداته فيه. فهذا المنتج الخاص بترامب استقبل فيه العديد من رؤساء العالم أثناء فترة توليه الحكم، مثل الرئيس الصيني ورئيس الوزراء الياباني. كما أصدر ترامب العديد من قراراته المهمة أثناء وجوده فيه.

المنتجع الفاخر يتكون من قرابة 126 غرفة، اشتراه ترامب عام 1985. بنى المنتجع عام 1927 ليكون منزلًا لمارجوري بوست، إحدى الشخصيات البروجوازية الشهيرة في الولايات المتحدة. حين توفت أوصت أن يئول القصر للحكومة الأمريكية، لكن لم يبال جيمي كارتر أو ريتشارد نيكسون باستخدامه، فعاد المنتج للملكية الخاصة عام 1981، واشتراه ترامب بعد ذلك. ليحوله إلى مستقره الشتوي، ويرفع رسم عضوية الاشتراك فيه إلى 200 ألف دولار سنويًا.

لكن من وسط تلك الغرف العديدة اختارت المباحث الفيدرالية خزانة الرجل لتبحث فيها. ربما تبحث عن صندوق جديد من الصناديق التي أخطرت إدارة المحفوظات والسجلات الوطنية الأمريكية الكونجرس بشأنها. فقد أبلغتهم الإدارة في فبراير/ شباط 2022 أنها استعادت 15 صندوقًا من الوثائق السرية التابعة للبيت الأبيض من منتجع ترامب في فلوريدا. وبعض تلك الوثائق يحوي معلومات شديدة السرية والحساسية.

سدّ الصرف الصحي

لجنة الرقابة بمجلس النواب الأمريكي ردّت على ذلك الإخطار بـأنها فتحت تحقيقًا موسعًا في تصرفات ترامب. كما طلبت من إدارة المحفوظات تسليمها الوثائق والمعلومات. بدوره أعلن وافق على إعادة بعض الوثائق للإدارة الأمريكية واصفًا الأمر بأنه إجراءات عادية وروتينية.

ليست تلك هي المرة الأولى التي تثور فيها المزاعم حول تخلص ترامب من وثائق مهمة. فقد سبق أن انتشرت مزاعم عن قيام ترامب بسد بشبكة الصرف الصحي في البيت الأبيض أثناء رئاسته عبر التخلص مع العديد من الوثائق المهمة فيها. ثم بعد بضعة شهور نشرت المواقع الأمريكية صورًا لوثائق في حمامات البيت الأبيض. ونشر الموقع أيضًا صورًا لوثائق مكتوبة بخط ترامب موضوعة في حمامات البيت الأبيض.

وتنشر الصور في كتاب جديد، رجل الثقة، تنوي ماجي هابرمان نشره في أكتوبر/ تشرين الأول 2022. هابرمان هى مراسلة «نيويورك تايمز» في البيت الأبيض. هابرمان تقول إن ترامب اعتاد تمزيق الوثائق في نوبات غضبه، ما كان يضطر موظفي البيت الأبيض إلى جمع تلك الوثائق وتقديمها إلى الأرشيف الوطني. لأن تمزيق تلك الوثائق ينتهك قانون السجلات الرئاسية الذي يقضي بأن تلك الوثائق هي ممتلكات حكومية ويجب الحفاظ عليها.

ترامب نفى تلك النوبات أو تمزيق الوثائق. كما شن هجومًا لاذعًا على خفله جو بايدن. مؤكدًا أنه كان يعلم كل شيء عن مهاجمة منتجع ترامب. ووصف ترامب ما حدث بأنه هجوم منسق من اليسار الراديكالي الديمقراطي، على حد وصف ترامب. البيت الأبيض من جهة نفى علمه بالمداهمة، مشيرًا إلى سيادة القانون واستقلالية وزارة العدل. ولم تفوّت نانسي بيلوسي الفرصة للشماتة في ترامب، قائلةً إنه لا أحد فوق القانون، وأن لمكتب التحقيقات الفيدرالي كامل الحق في القيام بهذا التفتيش.

ملاحقات قضائية في كل مكان

يأتي ذلك في خضم التحقيق الجاري بالفعل بخصوص هجوم 6 يناير/ كانون الثاني الذي قام به أنصار ترامب على مبنى الكابيتول الأمريكي. ويهدف ذلك التحقيق إلى إثبات أن ترامب حاول إبطال هزيمته في انتخابات 2020. لكن لا يحق لتلك اللجنة اتهام ترامب بأي اتهامات فيدرالية، لأن ذلك القرار يعود لوزير العدل شخصيًا. وهو التحقيق الذي لا يتوقع أن يسفر عن شيء لأنه لا يمكن إثبات أن ترامب دفع أنصاره للاقتحام بنيّة فاسدة، أو أنه أراد إسقاط الحكومة الأمريكية.

لكن قد يواجه ترامب اتهامًا بالاحتيال. إذا أثبتت تحقيقات الديمقراطيين أن ترامب جمع من مؤيديه قرابة 250 مليون دولار من أجل رفع دعوى في المحاكم الأمريكية لإثبات فوزه في انتخابات 2020، لكنه لم يفعل. ما يضعه تحت طائلة الاحتيال الإلكتروني، إذ يحظر القانون الأمريكي جمع أموال على أساس ادعاءات كاذبة أو احتيالية.

وفي ما يتعلق بالانتخابات أيضًا فإن ترامب يواجه تهمة محاولة تغيير نتائج الانتخابات في فلوريدا حين كان رئيسًا. والدليل على تهمته هو مكالمة أجراها مع سكرتير ولاية جورجيا الجمهوري. أخبره ترامب فيها بأن عليه إيجاد الأصوات اللازمة لتحويل خسارة ترامب إلى فوز. وهو ما يعد تآمرًا للتزوير في الانتخابات، والتحريض على تزويرها، والتدخل المباشر في سير الانتخابات. لكن لترامب حجج مقنعة دائمًا، فيمكنه القول إنه لم يكن يقصد كل هذا، بل كان حديثًا مرسلًا.

بجانب تلك القضايا الكبرى تلاحق ترامب قضايا أخرى، مثل دعوى التشهير التي رفعتها ضد كاتبة أمريكية تقول إنه اغتصبها. رد ترامب على تلك الدعوى بأن الكاتبة اختلقت القصة لتروج لكتابها، فرفعت عليه قضية تشهير. ووفقًا لمحامي ترامب فإنه محمي من قضايا التشهير بموجب قانون فيدرالي يمنح موظفي الحكومة حصانةً من دعاوى التشهير.

هل يُمنع من الترشح للرئاسة؟

مهما تكن نتائح تلك القضايا فإن ذلك لا يشغل الرأي العام الأمريكي بقدر انشغالهم بالسؤال الأهم، هل يمكن أن تؤدي تلك الدعاوى لمنع ترشح ترامب للرئاسة مرة أخرى؟

تجيب المادة 2071 من الباب 18 من قانون الولايات المتحدة على هذا التساؤل. فتنص على أن أي شخص لديه عهدة حكومية، مثل مستندات حكومية، ويتعمد إخفاء تلك العهدة أو التخلص منها أو تحريفها بصورة غير قانونية، فإنه يُغرم ماليًا ويُسجن لمدة 3 سنوات. والأهم أنه في حالة كان متوليًا لمنصب فيدرالي يجب حرمانه من ذلك المنصب، ومن تولي أي منصب في الولايات المتحدة.

بالتالي لو أدين ترامب بإخفاء وثائق رسمية، فسوف يصبح غير مؤهل للترشح للرئاسة مرة أخرى. لكن بالطبع دائمًا ما يجد محامو ترامب ثغرة قانونية، فحتى لو أدين ترامب قد لا يُمنع من الترشح للرئاسة. لأن المادة السابقة قد تعزل الموظف من منصبه، لكنه حين يترشح للرئاسة فإنه يستند إلى معايير الأهلية التي يحددها الدستور للترشح. والدستور الأمريكي يمنع الأفراد من الترشح حال تمت ضدهم إجراءات العزل أثناء وجودهم في المنصب سابقًا، أما ترامب حاليًا فهو يتحاكم للقانون الجنائي العادي.

لكن على عكس المتوقع من تلك المداهمات الهادفة لإدانة ترامب، فقد أظهرت استطلاعات الرأي أنها أعادته لدائرة الضوء من جديد. وأنه إذا لم تصل الفرق القانونية إلى نص واضح يؤدي إلى حكم محدد باستبعاد ترامب من الترشح للمرة الثالثة لانتخابات الرئاسة الأمريكية فإن فرص فوزه تتزايد، خصوصًا مع دور الضحية الذي يمارسه، والذي يستطيع تحويل كل الهجوم عليه إلى دليل يؤكد أنه مستهدف لشخصه فحسب. أو كما يصف الأمر بأنه ضحية مؤسسة فاسدة، ولم يُعامل شخص سياسي بصورة سيئة كما تمت معاملته هو.

وأسهمت تلك المداهمات على تحويل العديد من الجمهوريين الناقمين على ترامب إلى متعاطفين معه حاليًا. فأصبح للمداهمات تأثير تعبوي ستجعل الجمهوريين يصطفون في انتخابات التجديد النصفي في نوفمبر/ تشرين الثاني القادم لرفع الاضطهاد عن الجمهوريين جميعًا، بمن فيهم رئيسهم السابق.