رغم بُعد المسافة وتحولات الأوضاع سياسيًّا واجتماعيًّا بين الناس وثورة يناير 2011، فإن الحديث عنها لا يزال قادرًا على إثارة العديد من الشجون والذكريات، بل لا تزال تلك الثورة مرتعًا خصبًا للمزيد من الكتابات السردية والروائية التي يبدو أنها لا تنضب. ويبقى على الروائي والكاتب المحترف دور كبير ومهم في التقاط اللحظة التي يمكن أن ينطلق منها لتصوير مشهد ما، أو استدعاء الثورة وحكايتها من جديد. فما الذي يقدمه لنا الروائي عزت القمحاوي في روايته الجديدة «ما رآه سامي يعقوب»؟

منذ اللحظة الأولى التي يستقبل فيها القارئ العمل، بدءًا بالعنوان والغلاف، يشعر أن هناك سرًّا ما أو أمرًا غامضًا يختبئ حينًا خلف صورة غلاف الرواية الذي تتصدره قطة غامضة وعالم يبدو من خلفها فيه ذلك البطل الوحيد. وما إن نشرع في القراءة حتى يتكشَّف لنا هذا السر وذلك الغموض شيئًا فشيئًا في سيرة وحياة بطل الرواية سامي يعقوب وعائلته، وبطريقته الذكية في الإيجاز والتكثيف يستعرض معنا ما مرت به تلك العائلة منذ ثمانينيات القرن الماضي حتى نصل إلى اللحظة الملتبسة الراهنة.

كل ذلك على خلفية مشهد رئيسي واحد هو مشهد علاقة تنشأ في الشارع بين قطٍ وقطة يصورها سامي يعقوب باهتمام بكاميرا الموبايل الخاصة به، وهو يفكر في أثر تلك المشاهد على لقائه المرتقب بحبيبته، خلال ذلك المشهد يعكس الكاتب مشاعر بطله كلها، وعلاقته بالحب والجنس وحبيبته فريدة وقصة ارتباطه بها، وعلاقته بأخيه الذي مات شهيدًا في أحداث «موقعة الجمل».

بذكاءٍ وبساطة يرصد القمحاوي نفسية بطله سامي يعقوب وتحولاته، منذ البداية الحالمة اللامبالية لرجلٍ أسير لحكايات والده وكتبه ونهايته المأساوية، إلى فرد وحيد أعزل يسعى جاهدًا أن يجد طوق نجاة له في هذا العالم، فإذا بالدنيا تشتعل تحت قدميه، وإذا بالمظاهرات تلهب أفكاره وقلبه، وإذا بالثورة تقوم.

أحس نفسه وسط دفء هذا الجمع الذي أحبه. ما أجمل أن تشارك الآخرين حلمًا واحدًا. كان يذهب إلى الميدان كل يومٍ باضطرابٍ لذيذ، وكأنه ذاهبٌ للقاء حبيبته، لكنه لم يشعر بأدنى إحساس بالذنب لبقائه في البيت يوم أول فبراير احتفاءً بيوسف، خاصة أن قوة الأصوات جعلته متأكدًا من أن أعداد المحتشدين في الميدان أضخم مما كانت عليه في اليوم السابق، وبوسعه من هذه المسافة أن يشم رائحة الأمل بقوةٍ أكبر بسبب تناقص الخُطب وتزايد الأغنيات في بث إذاعة الميدان. وكانت تلك الرائحة بالذات هي التي جعلته يحاول إقناع يوسف بالعودة النهائية لمصر.

تتحوَّل الصورة من الحلم الوردي الجميل إلى الانكسار والهزيمة، بل إلى الموت الذي يبدو كهاجسٍ أساسي لا يطارد بطل روايتنا سامي يعقوب فحسب، بل يطارد الكاتب الروائي عزت القمحاوي نفسه، ويسعى للتغلب عليه ومطاردته بشتى الوسائل، لذلك نجده حاضرًا في كثيرٍ من روايته منذ كتب في 2004 روايته «غرفة ترى النيل»، مرورًا بمجموعته القصصية المتميزة «السماء على نحوٍ وشيك» عام 2014 والتي عرض فيها أكثر من قصة تواجه الموت وتسائله بشكلٍ فني وجمالي، حتى في روايته السابقة «يكفي أننا معًا» والتي كان أساسها قصة الحب حضر الفارق الزمني والخوف من الموت كهاجس أساسي ومحرك كبير لبطل الرواية الخمسيني.

اقرأ أيضًا: ثورة يناير في أدب الشباب: 7 روايات تحكي الحكاية

هكذا تحمل الرواية هاجس الموت والخوف منه، مقترنًا بهواجس أخرى في علاقة البطل بحبيبته، وهل هو قادرٌ بالفعل على إسعادها أم أن أي علاقة ستكون محكومة في النهاية بالفشل، ومن خلال تصوير البطل وما تتحول إليه حياته وحياة الناس بعد أحداث الثورة، ندرك حجم الانكسار والخيبة التي أحاطت بالجيل بأكمله، واستطاع أن يعبِّر القمحاوي عنها من خلال الصورة الأدبية والفنية المرسومة بأحداث الرواية دون مقولات جاهزة مباشرة أو خطابية زاعقة.

بدأ به في فرز الفراشات وتصنيفها شرع يرصد في وحدة لياليه الطويلة تحولات البشر، يتراهن مع نفسه على اللحظة التي ستتخلَّى فيها سحلية عن قشرتها الهشة فتسفر عن ثعبان، أو الخروف الذي ستنمو على رقبته لبدة ويصبح أسدًا. في الصباح يلتزم الحذر، يضع السماعات على أذنيه متظاهرًا بأنه لا يسمع شيئًا من احتراب زملائه أثناء رحلة الذهاب والعودة بالأتوبيس وطوال ساعات العمل في المكتب، كانوا يختلفون على توصيف الحملان والنمور دون أن يتوصلوا إلى نتيجة أو يتفقوا على شيء. مع الوقت لم يعد الإقناع هدفًا للمتخاصمين همسًا، بل إيحاء كلٍّ منهم للآخر بقدرته على الوشاية به.

ومثلما كانت «الحمامة» عند باتريك زوسكيند معادلاً موضوعيًّا لخوف البطل «جوناثان نويل» من اقتحام الحياة، وانعكاسًا لأثر القمع والاضطهاد في تعطيل حياة الناس في المجتمع، كانت القطتان عند عزت القمحاوي هنا انعكاسًا للحالة الخاصة التي يعيشها بطل روايته سامي يعقوب غير قادرٍ على تجاوز ظروف حياته والتغلب على هواجسه، بل يجد في النهاية من يفرض سيطرته عليه ويورطه في تهمةٍ لا علاقة له بها، وكأنه لا سبيل للحياة إلا من خلال ذلك الحصار المستمر المفروض علينا جميعًا حتى إذا وجدنا الحب واستطعنا أن نقوم بثورة.

يجيد القمحاوي الانتقال في الرواية بين الأزمنة بين لحظة تصوير البطل لمشهد القطتان، وهو الزمن الذي لا يتجاوز ساعة في السرد، وبين لقطات الفلاش باك التي يعود فيها بطله إلى حكاياته الخاصة، بدءًا بحكاية والده وعائلته وحتى مجيء أخيه وأحداث الثورة، حتى يعود مرة أخرى إلى اللحظة الراهنة، واستطاع الكاتب أيضًا أن يتعامل باحتراف مع ما تمنحه النوفيلا من قدرة خاصة على التكثيف، وأن يوظف كل ذلك لصالح عرض حالة بطل روايته من خلال مشاهد قصيرة معبرة.

عزت القمحاوي روائي مصري من مواليد 1961، يكتب الرواية والقصة القصيرة والنصوص الحرة، حازت روايته «بيت الديب» على جائزة نجيب محفوظ التي تمنحها الجامعة الأمريكية عام 2012، كما وصلت روايته «يكفي أننا معًا» للقائمة القصيرة في جائزة الشيخ زايد للكتاب 2017، كما صدر له «كتاب الغواية» عن القراءة وهواجسها، و«الأيك في المباهج والأحزان» الذي عده الكثيرون كتابًا فريدًا في مجاله حيث رصد فيه احتفاءً خاصًّا بالحواس.