محتوى مترجم
المصدر
Russia Beyond
التاريخ
2017/11/15
الكاتب
Alexey Timofeychev

في عام 1922، رحّلّت السُّلطات السوفياتيّة بعضًا من بين أشهر المفكّرين في البلاد؛ ودرجتْ الإشارة لهذا النزوح القسري باسم «باخرة الفلسفة»، فقد رُحِّل غالبيتُّهم على متن باخرة ضخمة. لكن، ما الذي دفع لينين إلى التخلص منهم؟

«إنَّ ترحيلَ العناصر النشطةِ المعادية للثورة إلى جانب المثقفين البرجوازيين هو الإنذار الأوّل الذي توجهه السلطات السوفياتيّة لهذه الطبقة»، أوردت الصحيفة السوفياتية الرئيسية «براودا» (الحقيقة) نهايةَ أغسطس/آب 1922. بعد مرور شهرين، فارقت سفينتان ألمانيّتان، هُما «بيرغر هايست إيرهاكِن» و«بروسن»، شواطئ الاتحّاد السوفياتي محمّلتيْن بعدد من المفكّرين الروس البارزين.

بالإجمال، كان قد أُجبر أكثر من 160 شخصًا، شاملًا أفراد عائلاتهم، على ترك البلاد. من بينهم أساتذة جامعيّون، أطباء ومعلّمون واقتصاديّون وكتّاب وسياسيّون ورجالُ دين، يجمعهم قاسم مشترك، ألا وهو معارضة الاتّحاد السّوفياتي.

قليلةٌ هي الأغراض التي سُمِح لهم بأخذها، زوجان منَ الألبسة الداخليّة، جراباتهم وأحذيتهم، سترة واحدة وسروال ومعطف وقبّعة. ولا شيء آخر. لم يُسمح لهم بأخذ الأموال والمجوهرات، فقد صودرت كل المقتنيات الثمينة، بما فيها السندات الماليّة.

علماءُ بارزون

شمل المبعدين طيفٌ من الباحثين الاجتماعيين والمفكّرين الروس البارزين؛ وأشهرهُم بيتريم سوروكين، أحد الآباء المؤسسين لعلم الاجتماع المعاصر. كان سوروكين قد دعم خصوم البلاشفة الروس إبّان الثورة البلشفيّة، لكنه آثر الابتعاد عن معترك الحياة السياسية لاحقًا.

إضافة إلى عدد من الكتّاب والفلاسفة المرموقين المناوئين للماركسية، مثل سيرجي بولغاكوف ونيكولا برديائيف ونيكولا لوسكي وإيفان إليين وسيميون فرانك الذين لعبوا دورًا أساسيًا في مسار تطوّر الفلسفة الروسيّة قبل عام 1917. على أنَّ السواد الأعظم من المُبعدين لم يحظَ بالشهرة. ومع ذلك، يُعتقد أن حصيلة ما نشره الباحثون المُبعدون عن الاتحاد السوفياتي قد بلغ نحو 13.000 مؤلّف علمي غطّت كُلّ فروع العلوم بحلول عام 1939.

«عبيد البرجوازية المؤدلجين»

كانت الأسباب التي حدت بالسلطات السوفييتيّة إبعادَ كثير من المثقفين تتعلق بالمستقبل المُرتقَب للتعليم في الدولة. وفي عام 1921، فرض الاتحاد السوفياتي القيودَ على استقلالية الجامعات، انطلاقاً من فهمٍ لأهميّة التعليم في خلق مجتمع اشتراكي جديد، ورغبة في إحكام القبضة السوفياتية على المراكز التعليمية في البلاد. بالإجمال، فقد حظي التعليم باهتمام ملفت، تجلّى في التصدّي الفعّال للأمّيّة واستغلال التعليم العالي. لكنّ إصلاح الجامعات أثار السخط وتسبب في موجةٍ عُرفت «بإضرابات الأساتذة الجامعيّين».

ومع ذلك، فقد أُخذت بالحسبان اعتبارات أخرى. إذ كان عديد من هؤلاء المثقفين مفكّرين دينييّن لم يعد لهم مكان في روسيا الاشتراكية، وفقًا لقادتها. يتضح ذلك عندما يلقي المرء نظرة على مقالة خطّها لينين في مارس/آذار 1922 مهّدت لقرار باخرة الفلسفة؛ تحت عنوان «في أهمية الماديّة الكفاحية».

في مقالته، يربط لينين الدّين باتّجاهات الفلسفة الحديثة غير الماركسيّة من حيث الوضعية الطبقية للبرجوازيّة، الخصم اللدود لدولة البروليتاريا الروسيّة الحديثة. بالنسبة إلى لينين، كان المفكرون الدينيّون وأنصارُ مُقتربات الفلسفة الحديثة «عبيدًا مؤدلجين للبرجوازية»، الذين طمحوا بشكل أو بآخر لاستعادة، نظامٍ رأسمالي غابر في روسيا. سادَ الاعتقادُ بأنَّ البرجوازية قد تلاعبت بالجموع عبرَ أفكار رجعية، دينية في أساسها، مما دفع السوفيات إلى التصرف مع المسؤولين عن هذه الأيديولوجية.

«دولةٌ بلشفيّة تقديسيّة»

مع ذلك، فثمة بعدٌ آخر أيضاً لهذه القضية. كما أشار المفكر الاجتماعي سيرغي كارا مورزا في كتابه «انهيار الاتحاد السوفياتي»، إذ أقام البلاشفة دولة أبويّة أيديوقراطيّة [ذات نظرة واحدة] تقوم على أساس فكرةٍ عمومية عن العدالة؛ مما يعني أن الأيديولوجيا قد لعبت دورًا محوريًّا في هذا النظام. وهكذا، فلم يستطع البلاشفة التهاون مع منافسيهم في ما يخص تصوّر الأفكار.

يذكر أحد ركّاب الباخرة، نيكولا برديائيف (بعد سنة من الإبعاد)، في كتابه «فلسفة اللامساواة»:

إن الدّولة الاشتراكية ليست دولة علمانية، بل دولة تقديسية… إنها تمثّل دولة ثيوقراطيّة سلطويّة. والاشتراكية تدينُ بدينٍ تبشيريّ. بل إنّ الأوصياء على «الفكرة» التبشيريّة للبروليتاريا يمثّلون الهرميّة بعينها، أيّ الحزب الشيوعي، المُفرط المركزيّة، الذي يحوزُ على سلطات دكتاتوريّة.

في ذات الوقت، «فلم ينظر الرجال الذين أبحرت بهم باخرة الفلسفة، كجماعةٍ، إلى الفلسفة «كمطرقة لتغيير العالم»، ولا هُم اعتقدوا بإخضاع المعرفة والفكر لبرنامج سياسي، كما تشير مراجعةٌ لكتابٍ حول الموضوع.

وبالتالي، فقد نحا لينين لرؤيتهم كخصوم و«جواسيس عسكريين». أمّا ليون تروتسكي، شريك لينين الأوحد في وقت ما، فقد ذهب لما هو أبعد من ذلك بالقول «لقد رحّلنا أولئك الأشخاص لعدم وجود حجّة تكفي لقتلهم بالرصاص، ولم يكن تحملهم كذلك ممكناً».