ولقد عاينتُ جينوس المذكور لما دخل من الحوش (حوش القلعة)، ورأى تلك الأبهة والعظمة أُغمي عليه، واستلقى على الأرض كالميّت، ثم أفاق، وأعلامه منكّسة أمامه، وعُرضت الغنائم والأسرى على السلطان برسباي، ثم قُدّم جينوس بقيوده مكشوف الرأس، فخرّ على وجهه يُعفّره في التراب، ثم قام وقد أظهر من الخوف ما لا مزيد عليه.

المؤرخ المصري جمال الدين بن تغري بردي (ت 874هـ/1480م) في وصفه لملك قبرص الأسير في القاهرة


قرصنة صليبية

حين أجلى المماليك الصليبيين من آخر معاقلهم في عكا سنة 690هـ/1292م، وتم طردهم من بلاد الشام، تقدّمت قبرص لتكون معقلاً جديدًا للهجمات الصليبية؛ فقد اتخذ الصليبيون وعلى رأسهم آل لوزجنان من قبرص مركزًا للهجوم والإغارة على الموانئ الإسلامية في شرق البحر المتوسط وتهديد تجارة المسلمين؛ وكان أخطر وأشرس تلك الهجمات، ما قام به الملك القبرصي «بطرس الأول لوزجنان» حين تمكّن من القيام بحملة صليبية على مدينة الإسكندرية في سنة (767هـ = 1365م)، فقد نزل الصليبيون على حين غرّة من أهلها، وفي وقت سياسي سيطر فيه كبار الأمراء المماليك على العرش والنفوذ، وكان السلطان الأشرف شعبان بن حسين بن محمد بن قلاوون لا يزال غير قادر على الإمساك بزمام السلطنة بقوة.

نزل الصليبيون المدينة فأحرقوا الحوانيت والخانات والفنادق، ودنسوا المساجد، وعلّق القبارصة عليها الصلبان، واغتصبوا النساء وقتلوا الأطفال والشيوخ، ومكثوا بالمدينة ثلاثة أيام يعيثون فيها فسادًا، ثم غادروها إلى جزيرتهم حين علموا بمقدم حملة عسكرية مملوكية من القاهرة. لكن تكررت مثل هذه الحملة على طرابلس الشام بعد ذلك في سنة (796هـ = 1393م).

ظلّت غارات القبارصة لا تنقطع على الموانئ والسفن الإسلامية، ولم تفلح محاولات سلاطين المماليك في دفع هذا الخطر والقضاء عليه، وبلغ استهانة القبارصة بهيبة دولة المماليك واغترارهم بقوتهم أن اعتدى بعض قراصنتهم على سفينة مصرية سنة 826هـ وأسروا من فيها، ولم تفلح محاولات السلطان برسباي في عقد معاهدة مع «جانوس» ملك قبرص؛ تَضْمن عدم التعدي على تجار المسلمين وموانيهم وسفنهم [1].

بل تمادى القبارصة في غرورهم، فاستولوا على سفينتين تجاريتين، قرب ميناء دمياط، واستطاعوا أسر ما يزيد على مائة رجل، ثم تجاوزوا ذلك فاستولوا على سفينة محملة بالهدايا كان قد أرسلها السلطان برسباي إلى السلطان العثماني «مراد الثاني»، عند ذلك لم يكن أمام برسباي سوى التحرك لدفع هذا الخطر المتنامي الذي نال من هيبة المماليك، وسلطانهم ودولتهم، ولم يكن ثم شك في أن الرد على هذه الإهانات المتكررة سيكون قويًا.


حملات تأديبية

لقد اشتعلت في نفس السلطان برْسباي نوازع الجهاد، والشعور بالمسئولية، فأعد ثلاث حملات لغزو قبرص، وذلك في ثلاث سنوات متتاليات [2]. وكان لشكوى الناس أثرها في نفس برسباي؛ فقد «ضجّ الناس منه (ملك قبرص)، وشكوا إلى السلطان، وعيّن لهم تجريدة (حملة عسكرية)، وبها عدّة من الأمراء المقدّمين والمماليك السلطانية، فخرجوا إلى الغزاة في سبيل الله تعالى»[3].

خرجت الحملة الأولى في سنة (827هـ = 1424م)، وكانت حملة صغيرة تمكنت من النزول في قبرص، وهاجمت ميناء «ليماسول»، وأحرقت ثلاث سفن قبرصية كانت تستعد للقرصنة، وغنموا غنائم كثيرة، ثم عادت الحملة إلى القاهرة بثلاثة وعشرين أسيرًا [4].

لقد كانت الحملة المملوكية الأولى على قبرص شديدة الأهمية؛ لأنها كشفت للمماليك عزم القبارصة على الهجوم على السلطنة المملوكية في مصر والشام مرة أخرى، حين وجدوا الاستعدادات البحرية والعسكرية التي شاهدوها، وكشفت الحملة كذلك عن مكامن الضعف في الجزيرة، ومدى عجزها عن مقاومة السلطنة المملوكية. وصفوة القول في هذه الغزوة إنها كانت السبب الذي أنتج «الغزوتين اللتين حصلتا بعدها» على حد تقرير المؤرخ بدر الدين العيني [5].

شجّع هذا النصر برسباي لإعداد حملة أعظم قوة من سابقتها لغزو قبرص، فخرجت الحملة الثانية في رجب (828هـ = مايو 1425م) مكونة من أربعين سفينة، واتجهت إلى الشام، ومنها إلى قبرص، حيث نجحت في تدمير قلعة ليماسول «اللمسون»، وقُتل نحو خمسة آلاف قبرصي، وعادت إلى القاهرة تحمل بين يديها ألف أسير، فضلاً عن الغنائم التي حُملت على الجمال والبغال [6].


قبرص ولاية مصرية!

لكن ذلك لم يشف غليل برسباي، فقد كان هدفه أعظم من الغنائم والأسرى، وأقوى من مجرد التأديب للصليبيين والقبارصة المتواجدين في الجزيرة، لقد عزم على إخضاعها وتبعيتها لمصر؛ لذا أعد برسباي حملة ثالثة أعظم من سابقتيها وأكثر عددًا وعُدة، فأبحرت مائة وثمانون سفينة من ميناء رشيد في (829هـ = 1426م)، واتجهت إلى ليماسول، فلم تلبث أن استسلمت المدينة وكل من فيها للقوات المصرية في (26 شعبان 829هـ = 2 يوليو/تموز 1426م)، وتحركت الحملة شمالاً في جزيرة قبرص، وحاول ملك الجزيرة أن يدفع القوات المصرية، لكنه فشل، بل وسقط أسيرًا كسيرًا بين يدي القوات المصرية، واستولت هذه القوات على العاصمة «نيقوسيا»، وبذا دخلت الجزيرة في طاعة دولة المماليك [7].

احتفلت القاهرة برجوع الحملة احتفالاً باهرًا، فقد شقّت القوات المملوكية الظافرة شوارع القاهرة من شمالها إلى جنوبها، واحتشد المصريون لاستقبال الأمراء والمجاهدين في (8 شوال 829هـ = 14 أغسطس/آب 1426م)، وكانت جموع الأسرى البالغة 3700 أسير تسير خلف الموكب في ذلة وانكسار، وكان على رأسهم ملك قبرص جانوس وأمراؤه مصفدين في الأغلال والقيود [8].

لقد وصف المؤرخ المصري الكبير أبو المحاسن ابن تغري بردي –وكان شاهدًا على احتفالات الدولة والعامة بعرض الأسرى القبارصة– مشهدَ دخول الملك القبرصي جانوس على السلطان المملوكي الأشرف، قائلاً:

ولقد عاينتُ جينوس المذكور لما دخل من الحوش[9]، ورأى تلك الأبهة والعظمة أُغمي عليه، واستلقى على الأرض كالميّت، ثم أفاق، وأعلامه منكّسة أمامه، وعُرضت الغنائم والأسرى على السلطان، ثم قُدّم جينوس بقيوده مكشوف الرأس، فخرّ على وجهه يعفره في التراب، ثم قام وقد أظهر من الخوف ما لا مزيد عليه، ثم أمر السلطان بتوجهه إلى منزل قد أُعد له بالحوش، فكان هذا اليوم من الأيام التي لم نعهد بمثلها، ولا شاهدنا مثل هذا اليوم الذي عظّم الله قدره بنصر المسلمين، وأعز الله فيه دينه، فلله الحمد على هذه النعمة. ولما كان جينوس بين يدي الملك الأشرف على تلك الهيئة المذكورة، صارت دموع الأشرف تذرف، وهو يلهج بحمد الله وشكره[10].

استقبل برسباي بالقلعة ملك قبرص عُقيب ذلك، وكان بحضرته وفود وسفراء من بلدان عدة، مثل: شريف مكة، ورسل من آل عثمان، وملك تونس، وبعض أمراء التركمان، فقبّل جانوس الأرض بين يدي برسباي، واستعطفه في أن يطلق سراحه، فوافق الأشرف على أن يدفع جانوس فدية عظيمة للغاية وهي مائتي ألف دينار، مع التعهد بأن تظل قبرص تابعة لسيادة مصر ومراسيمها وقراراتها، وأن يكون هو نائبًا (محافظًا) عن الأشرف في حكمها [11].

وهكذا انتهت صفحة من صفحات الحروب الصليبية الضدية وهي التي شنّها المسلمون أواخر العصور الوسطى للثأر لأنفسهم مما حلّ بهم من قبل على يد الصليبيين، وهكذا تم للمسلمين القيام بعمل وصفه المؤرخون بأنه عمل من أعمال الجهاد، وهو في الواقع خليط من الجهاد والحرب التوسّعية ابتغاء حماية المصالح الاقتصادية البحتة، وظل جانوس حتى وفاته محافظًا على عهده لبرسباي بدفع الجزية السنوية، كما استمرت قبرص «من جملة بلاد السلطان»[12]، وظل حنا ابن جانوس فيما بعد على ولائه للدولة المملوكية، تابعًا لها على المستوى السياسي، حتى إنه تقلد «خلعة الولاية» التي أرسلها برسباي له حينما خلف أباه على العرش سنة 1432م/835هـ [13].


[1] Stanley Lane-Poole: A history of Egypt in the Middle Ages, p.336 – 338.[2] ابن شاهين: زبدة كشف الممالك ص138، وسعيد عاشور: قبرص والحروب الصليبية ص87، 88.[3] ابن إياس: بدائع الزهور 2/87، 88.[4] المقريزي: السلوك 7/103.[5] سعيد عاشور: قبرص والحروب الصليبية ص93.[6] المقريزي: السلوك 7/121.[7] ابن حجر: إنباء الغمر 3/366 – 368.[8] سعيد عاشور: قبرص والحروب الصليبية ص120، 121.[9] حوش قلعة الجبل (محمد علي) في القاهرة.[10] ابن تغري بردي: المنهل الصافي 3/268، 269.[11] ابن تغري بردي: النجوم الزاهرة 14/301- 304.[12] كثيرًا ما ردّد المقريزي في بدايات تأريخه لسنوات ما بعد سقوط قبرص وأسر جانوس قوله: «أهلّت هَذِه السّنة … وسلطان مصر وَالشَّام والحجاز وقبرص الملك الْأَشْرَف أَبُو الْفرج برسباي». السلوك 7/243، 259، 321.[13] سعيد عاشور: قبرص والحروب الصليبية ص121، 122، و Stanley Lane-Poole: A history of Egypt in the Middle Ages, p.337,338