ظهرت الحركات الاجتماعية وتنوعت في الآونة الأخيرة لتُجاري الأفكار والأهداف السياسية والاجتماعية التي عجزت التيارات السياسية التقليدية عن إدراكها والتعامل معها. كما تميزت هذه الحركات بدرجة عالية من المرونة مكّنتها من الحشد السريع واجتذاب العامة حتى تحقيق الأهداف الموضوعة، ومن ثم الانزواء والتحلل أو إعادة التبلور في شكل جماعات جديدة بأهداف أخرى.

من بين هذه الحركات حركة «احتلوا وول ستريت»، والتي استغلت الفراغ الذي خلّفه تراجع اليسار عالميًا، وعدم قدرته على التجديد والوفاء بمتطلبات الطبقات الفقيرة والمتوسطة، في الوقت الذي تفاقمت فيه مظاهر عدم العدالة وتمركز الثروة وتغول الشركات العابرة للحدود على الدول والحكومات، وتحقيقها مكاسب ضخمة على حساب العامة.


بداية الحركة

انطلقت حركة احتلوا وول ستريت في 17 سبتمبر 2011 من منتزه زكوتي بمدينة نيويوك، تحديدًا من حي المال والأعمال «وول ستريت». استقت الحركة أفكارها من مجموعات سبقتها لنفس النهج لكن لم تحقق صدًى عالميًا مثل مجموعة 15 إم البريطانية وجماعة «ضد الاستهلاكية» Anti-consumerist الكندية.

هدفت الحركة بالأساس إلى مواجهة عدم العدالة على المستوى العالمي في القطاعين الاقتصادي والاجتماعي، وفساد وجشع فاحشي الثراء ومواجهة سيطرة الشركات الكبرى على الحكومات. تتبنى الحركة شعار «نحن ال 99%»، في إشارة إلى غياب العدالة في توزيع الثروة بين 1% من سكان العالم ذوي ثراء فاحش، و99% يعانون من عدة مشكلات اقتصادية واجتماعية.

أُجبر المتظاهرون على الخروج من منتزه زكوتي في 15 نوفمبر، فاتجهوا إلى التركيز على التظاهر أمام البنوك ومقرات المؤسسات والجامعات. يُذكر أن صحيفة الجارديان كانت قد أشارت – وفقًا لبعض المستندات – أن المباحث الفيدرالية والأمن الداخلي قاما بمراقبة الحركة من خلال قواتهم المشتركة لمكافحة الإرهاب رغم تصنيف الحركة على إنها حركة سلمية.


مشكلة عدم العدالة والتفاوت في توزيع الثروة

تعد مشكلة عدم العدالة والتفاوت الكبير في توزيع الثروة هي السبب الأول لظهور الحركة وغيرها من الحركات الاجتماعية، فعلى الصعيد العالمي فإن 1% من سكان العالم يملكون حوالي نصف ثرواته، بينما خمس سكان العالم تقع ثرواتهم بين 10 و100 دولار فقط، إضافة إلى 383 مليون شخص تزيد ثروة الواحد منهم عن مئة ألف دولار، من بينهم 34 مليون مليونير.

على الصعيد الداخلي في الولايات المتحدة الأمريكية، ارتفعت نسبة الـ 1% أكثر ثراءً من إجمالي الدخل حتى وصلت إلى 23.5% في عام 2010، بعد أن كانت دون الـ 10% في السبعينيات، كما أشار تقرير منظمة التعاون الأوروبية إلى أن حصة العمال البريطانيين من عوائد معدلات النمو في أدنى مستوياتها منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. الأمر لا يقتصر على العمال البريطانيين بل إن التقرير أشار إلى أن الحالة إما مشابهة أو أكثر سوءًا في عموم دول الغرب الرأسمالي.

استطاعت الحركة عن طريق توظيف هذا الخلل الكبير في توزيع الثروة، بالإضافة إلى عدم قدرة الأحزاب السياسية بتكويناتها على تناول المشكلة، خصوصًا مع ضعف اليسار وعدم قدرته على تقديم بدائل حقيقية جذب العديد من المؤيدين، والحصول على تغطية إعلامية فريدة.


إلى ماذا آلت الحركة؟

قامت المباحث الفيدرالية بمراقبة حركة «احتلوا وول ستريت» من خلال قوات مكافحة الإرهاب رغم تصنيف الحركة على أنها حركة سلمية.

يرى البعض أن الحركة قد خفتَ نجمُها وأنها قد تحللت تنظيميًا ولم تعد تملك الزخم الجماهيري الذي حازته عند الانطلاق، لكن هل هذا هو معيار تقييم حركة اجتماعية ذات أهداف واضحة ومحددة؟

بالتأكيد لا، فقد استطاعت الحركة أن تجعل أفكارها تتسيد المجال العام على عدة أصعدة. فعلى صعيد النخبة السياسية؛ نجد أن الانتخابات الرئاسية الأمريكية قد تأثرت كثيرًا بأفكار ودعاوي الحركة، حيث تغيرت نبرة خطابات هيلاري كلينتون نحو الشعبوية الاقتصادية وتبنيها الأفكار التي أشارت لها الحركة، فقد أشارت إلى الهوة الواسعة بين قادة الاقتصاد الأمريكي والفئات العاملة المعلمين. لم تكن كلينتون هي المرشح الوحيد الذي نادى بمثل تلك المبادئ، بل شملت الموجة الشعبوية مرشحين آخرين من الجانبين الديمقراطي والجمهوري من أمثل بيرني ساندرز وتيد كروز وماركو روبيو.

قد تكون الحركة قد تراجعت تنظيميًا، لكنها تمكنت من جعل خطاب العدالة الاجتماعية وإعادة توزيع الثروة خطابًا حاكمًا في الساحة السياسة الأمريكية بل والعالمية.

على الصعيد الشعبي وجدت مبادئ الحركة دعمًا شعبيًا كبيرًا، حيث دفعت تلك المبادئ الكثير من عمال المطاعم ومحلات الشعير في كبريات المدن للمطالبة برفع الحد الأدنى للأجور في الولايات المتحدة، ليصل إلى 15 دولار للساعة، الأمر الذي لاقى قبولًا من الممثلين التشريعين للعديد من الولايات ودفعهم لرفع الحد الأدنى لـ 12 دولار للساعة في بعض الولايات مشيرين إلى كون الزيادة الجديدة مجرد بداية.

أما على صعيد تنشيط دور الحركات الاجتماعية نفسها ودعمه، فقد قدمت الحركة مثالًا دافعًا أعاد النشاط مرة أخرى للحركات البيئية والتي كانت قد هبطت شعبيتها بعد أحداث خط كيستون للنفط، والتي اعتقل فيها ما يقارب 1200 متظاهر. لكن تدفق الجماهير مرة أخرى بعد ظهور حركة «احتلوا» نتج عنه واحدة من أكبر الحركات البيئية على الإطلاق متمثلة في مظاهرات المناخ بنيويورك، والتي وصل عدد المشاركين بها إلى 400 ألف متظاهر، الأمر الذي دفع الرئيس الأمريكي أوباما إلى التوقيع على اتفاقية جديدة للحد من الانبعاثات مع الصين.

أما عن دور المال السياسي والتلاعب الواضح للمؤسسات الاقتصادية الأمريكية بسياسات واشنطن، دفعت الحركة بعد نهايتها 16 دائرة انتخابية وأكثر من 600 مدينة وبلدة أمريكية إلى كتابة مسودة لتعديل دستوري للتأكيد على أن الشركات ليست أشخاصًا ولا يحق لهم لعب أي دور سياسي. أضف إلى ذلك مشروعات القوانين الساعية إلى إعادة صياغة التمويل السياسي والسيطرة عليه بشكل أوضح.

كما ساهمت الحركة في إعادة قولبة قيادة الحزب الديمقراطي من خلال إليزابيث وراين، والتي تعتبر نظرًا لسياساتها الواضحة منذ ظهورها على الساحة في 2012، المرشح الذي يمثل الحركة دون أن تضمها تنظيميًا. حيث قامت وارين بتقديم 3 مشروعات لقوانين بهدف هدم الفجوة تدريجيًا، تضم إعادة هيكلة قروض الدراسة وهيكلة البناء الداخلي للبنوك الكبيرة، والفصل التام بين البنوك التجارية وبنوك الاستثمار.

إذا فقد تكون الحركة قد تراجعت تنظيميًا وفقدت جزءًا كبيرًا من القوة الشعبية الدافعة لها، لكنها تمكنت من تحقيق عدة أهداف، واستطاعت أن تجعل من خطاب العدالة الاجتماعية وإعادة توزيع الثروة خطابًا حاكمًا في الساحة السياسة الأمريكية بل والعالمية. ولعل هذا هو الغرض من الحركات الاجتماعية بالأساس، أن تلقي حجرًا في مياه راكدة لتحركها نحو أهداف بعينها.