لم يفق العالم بعد من دهشة تجديد كيليان مبابي لعقده مع باريس سان جيرمان، بدرجة أقل بسبب أن عقد اللاعب كان موشكًا على الانتهاء وسط تربص من نادٍ بحجم ريال مدريد يعرف العالم كله أنه النادي المفضل للاعب الفرنسي، فإذا به ينكر تمامًا أن اتفاقًا قد تم مع هذا الفريق في إعلان تجديد التعاقد.

لكن ما أثار الدهشة بدرجة أكبر، هو المقابل الفلكي الذي أفادت به التقارير شبه المؤكدة والذي أفضى إلى بقاء مبابي في باريس.

حين نقول كلمة «مقابل» لا نعني فقط العائد المادي الخرافي الذي سيتقاضاه الفرنسي، وأرجوك لا تصدق ما قاله ناصر الخليفي رئيس نادي باريس سان جيرمان حول أن ريال مدريد كان مستعدًا لدفع مبالغ أكبر، لا تقع في هذا الفخ.

ريال مدريد لم يكن مطالبًا بمكافأة تجديد عقد، باريس سان جيرمان سيعطي مبابي 100 مليون جنيه إسترليني كمكافأة لتجديد التعاقد. يضاف هذا إلى العرض الذي قدم من أكثر من 3 أشهر، ويبدو أنه ما وافق عليه مبابي في راتبه الأسبوعي الجديد، والذي سيصل إلى مليون جنيه إسترليني في الأسبوع، هذا ما لا قبل لأحد به في أوروبا إلا ناديان: باريس سان جيرمان ومانشستر سيتي.

حين نتحدث عن مليون جنيه إسترليني أسبوعيًا، فنحن نتحدث عن قرابة الـ 48 مليون جنيه إسترليني سنويًا، أي ما يوازي حدود الـ 150 مليون جنيه إسترليني في مدة التعاقد البالغة 3 مواسم حتى 2025 كقيمة موسمية ثابتة.

أكثر من مجرد رياضة

باريس سان جيرمان سيعطي مبابي بندًا غاية في الأهمية، وهو نسبة 100% من حقوق صور اللاعب في الحملات الدعائية، وهذا مختلف عن الحملات الدعائية المدفوعة التي يتم التعاقد مع كل لاعب بها على حدة، هذا بند آخر له علاقة باستخدام حق صورة اللاعب. مبابي وحده في باريس سان جيرمان يملك كل حقوق صوره حتى في إعلانات النادي، هذا ما لم يستطع ريال مدريد أن يوفر أكثر من 50% منه.

بمقاييس الربح والخسارة، لم يقدم مبابي مع باريس سان جيرمان ما يمنحه هذا المبلغ الخرافي، الأمر لا علاقة له بالرياضة بالمقام الأول، ستتأكد من ذلك حين تعلم أن مبابي بات مشاركًا بشكل رسمي في الإدارة الرياضية لفريق كرة القدم بنادي باريس سان جيرمان، سيحدد مبابي البالغ من العمر 23 عامًا مع إدارة الفريق الباريسي، سياسة النادي في الصفقات، والذاهبين والراحلين عن فريق به نجوم بحجم ليونيل ميسي ونيمار وسيرخيو راموس.

أنت تعلم الجملة العريضة وهي أن «قطر تملك باريس سان جيرمان». يخيل لك أن الملكية القطرية لها علاقة بشخص ناصر الخليفي، ولكن الأمر أكبر من ذلك بكثير.

باريس سان جيرمان مملوك لصندوق قطر للاستثمار، أو بالأحرى لفرع من الصندوق يسمى «قطر للاستثمارات الرياضية» الذي يرأسه ناصر الخليفي، الصندوق الأكبر مملوك بشكل مباشر لأمير قطر تميم بن حمد آل ثاني.

في عرف المستثمرين، لا يعد الخليفي مالك باريس سان جيرمان في هذا المقام، الخليفي هو «الرئيس» بينما يعد تميم بن حمد آل ثاني أمير قطر «مالك» باريس سان جيرمان.

الخليفي هو رئيس «قطر للاستثمارات الرياضية» بناء على خلفيته كرئيس للاتحاد القطري للتنس، الرياضة التي احترفها 15 عامًا، وبناء على تلقيه دراسة أكاديمية على أعلى مستوى في الإدارة الرياضية، فور أن بدأ الصندوق التوسع في الأنشطة الرياضية، كان لزامًا أن يتم تصدير صورة مختلفة عن المالك الرئيس والذي لن يتفرغ في خضم ثورات الربيع العربي والقيل والقال الذي لم ولن ينتهي حول قطر، للإجابة على أسئلة الصحفيين حول نادٍ ما، أو رياضة بعينها، ومن هنا تم تصدير الخليفي.

اشترى صندوق قطر النادي الباريسي على دفعتين، 70% كحصة أولى في 2011، وأتم البيع في 2012 بشراء الـ 30% المتبقية، ومن يومها دخل باريس سان جيرمان كواحد من أهم عمالقة أوروبا، مغيرًا الخارطة تمامًا.

العملية نيمار

قبل بداية موسم 2016-2017، أفادت مصادر صحفية إسبانية بأن باريس سان جيرمان استهدف ضم نيمار من برشلونة بعقد خرافي، كان إلى جانب تسديد كافة ضرائبه في إسبانيا، ومنحه الراتب الذي يريد، يقضي بمنح نسبة لنيمار من سلاسل فندقية، وطائرات خاصة وأملاك متشعبة لا علاقة لها بكرة القدم ضمن بنود تعاقده.

الأدهى أن هذا العرض قوبل بالرفض من نيمار، رغم أن الخليفي قدمه له بشكل رسمي شخصيًا في مدينة إيبيزا الإسبانية الساحلية، كان هذا قبل عام واحد من تسديد باريس سان جيرمان لـ 222 مليون يورو عدًا ونقدًا لبرشلونة قيمة الشرط الجزائي في عقد نيمار.

رحل البرازيلي إلى باريس ليفتح باب التساؤلات على مصراعيه حول البنود التي وافق بسببها على العرض الجديد إن كان قد رفض عرضًا خرافيًا قبلها بعام واحد.

في السياق ذاته، ستتفهم لماذا قوبل طلب ريال مدريد بالرفض حين عرض 160 مليون يورو من أجل مبابي الصيف الماضي، هذا المبلغ يعد لا شيء بشكل حقيقي قياسًا لأرباح صندوق قطر للاستثمار بشكل عام والتي تناهز سنويًا عشرات المليارات من أي عملة تريدها.

أرباح صندوق قطر للاستثمار القائمة على النفط والغاز الطبيعي ومبيعاتهما اليومية، إلى جانب مقدرات دولة قطر الغنية حد التخمة، تجعل تلك المبالغ «فكة» قياسًا إلى ما يمكن أن تقدمه للاعب مثل مبابي يضمن بقاء قطر في تلك الساحة بدولة بحجم فرنسا، قبل أشهر من كأس العالم قطر 2022 المشروع الأكبر في تاريخ قطر الرياضي.

لن يكون من الغريب في هذا السياق أيضًا أن ترى إيمانويل ماكرون بنفسه وهو يدلي بدلوه في ملف مبابي، ولن تستغرب ما قاله الصحفي الإسباني بماركا ماريو كورتيجانا حول «تهديدات قطرية لماكرون» حال عدم إدخال ثقل فرنسا في إبقاء مبابي بباريس سان جيرمان.

كل هذه المعطيات لن يكون عسيرًا عليك بعدها أن تفهم لماذا رفض مبابي ريال مدريد قبل أيام!

ولكن هل القصة لها علاقة فقط بصندوق قطر للاستثمار فقط؟!

بالتأكيد لا، إن كان الأمر له علاقة بميزانية الصندوق والمقدرة بـ 351 مليار دولار وفق آخر التقديرات فسيطرح السؤال الأهم: وماذا ستستفيد قطر؟

زيتنا في دقيقنا

الحق أن قطر تدير الشركات المملوكة لها بشكل مثالي، الصندوق لا ينفق على باريس سان جيرمان دولارًا واحدًا، وإنما رعاة النادي، الذين هم بالمناسبة «شركات قطرية».

شركة قطر للسياحة، قنوات «بي إن سبورتس»، شركة اتصالات «أوريدو»، بنك قطر الوطني، الخطوط الجوية القطرية، مستشفى «سبيتار»، هذه بعض النماذج من رعاة باريس سان جيرمان، شيء لن تجد دلالة أكثر منه على مثل «زيتنا في دقيقنا».

الصندوق لا يتدخل بثقله الكامل إلا في ملفات تحمل الطابع السياسي، ويبدو أن مبابي كان من أهمها وإلا لما وصل الأمر في عامين متتاليين للرئيس الفرنسي نفسه، ولكن ما يقدم للاعبين في كل ميركاتو، وما يحدث من عمليات بيع وشراء وإدارة رياضية باختصار، لا يعدو كونه بعضًا مما يمكن أن يمنحه الرعاة للنادي، ومن وراء ذلك لبلدهم ونظامهم السياسي الذي يهمهم أن يكونوا على وفاق معه على طول الخط.

المال لا يدوم .. النفوذ قد يفعل

في ضوء هذه المعطيات كلها، لن تكون حدود النصف مليار جنيه إسترليني المعطاة لمبابي في 3 مواسم، أو الـ 160 مليون يورو التي عرضها ريال مدريد منذ موسم، أو الـ 222 مليون يورو التي بات بها نيمار أغلى لاعب في التاريخ، قيمة تذكر، حيال ما ستجنيه قطر من عوائد «أن يجتمع الأفضل في مكان واحد» وهو الشعار الذي تراه مرة كل 10 دقائق على الأقل في فواصل «بي إن سبورتس» المملوكة لصندوق قطر للاستثمار أيضًا.

ولكن لا شيء يدوم، المال لا يدوم، ولكن النفوذ أحيانًا يفعل!

تلك هي اللعبة التي بدأ الخليفي ومن ورائه قطر يفطن إليها، تجلى هذا في الدور المحوري الذي لعبه الخليفي في إجهاض مشروع دوري السوبر الأوروبي، كان من الممكن أن يسكت ويكتفي بعدم دعم المشروع، ولكن الخليفي أصر على أن يرى الاتحاد الأوروبي من نفسه خيرًا، ويتصدى بكل شيء لأندية دوري السوبر الأوروبي، حصل بناء على ذلك على منصب شرفي هو رئيس رابطة الأندية الأوروبية، ولكن الأهم هو أنه ضمن تمريرًا –أو على الأقل- تسهيلًا لخروقات اللعب المالي النظيف التي توجه أصابع الاتهام مباشرة إلى باريس سان جيرمان في كل مرة، كل شيء يهون في سبيل أن «يجتمع الأفضل» دائمًا تحت راية عنابية اللون!