الشمس بعيدة ومتوارية خلف السحب… الأجواء توحي بأن اليوم على وشك الانتهاء رغم أن الساعة لم تصل بعد إلى الثانية ظهرًا… برودة الجو تغلف المكان، فيزداد الانكماش وتقل الرغبة في الحركة… الكثير من الانتباه والتفكير منصرف إلى تدفئة الأذن والأطراف، وتجنب موجات البرد الغامضة القادمة من الأرضيات.

غالبًا ما تحكم هذه المشاهد حياتنا طوال فصل الشتاء تقريبًا، والذي بدأ جغرافيًّا منذ أيام فقط، يربطها الكثيرون بـ «الاكتئاب»، لكنه في الحقيقة مجرد اضطراب موسمي لا صلة له بالاكتئاب، سنتعرف عليه معًا.


ما بين الاكتئاب والشتاء

من الطبيعي أن يحدث الخلط بين الاكتئاب كاضطراب أو كحالة مرضية وبين حالة الحزن أو الاكتئاب الموسمي المرتبط بالشتاء وبتغير الفصول، فالاكتئاب بمفهومه العام يمكن أن يُصنف كحالة مرضية تختلف درجات قوتها كأي مرض آخر، سواءً كان عضويًّا أم نفسيًّا، يمكن التعامل معه في بداياته، ويمكن التأخر في مواجهته، فيصل الأمر إلى الميول الانتحارية، أو الشعور بفقدان قيمة الحياة، والرغبة في الموت، وفقدان الشعور بأي شيء ذي قيمة وبهجة، وهو من أخطر الأمراض التي يجب التعامل معها.

أما حالة الاكتئاب الموسمي المرتبطة بالشتاء، فهي حالة زمنية مؤقتة ترتبط بحالة الأجواء العامة للشتاء، ويتعرض المُصابون بها لمجموعة من الأعراض، تنتهي ببعض الطرق العلمية، ويختفي أثرها بانتهاء الحالة العامة، ومن الصعب أن تؤدي مثل هذه الأعراض للحالة المتأخرة التي يصل إليها مرضى الاكتئاب المرضي، كالرغبة في الموت، أو الخضوع للميول الانتحارية.


فما هو اكتئاب الشتاء الموسمي؟

يُطلق عليه العلماء «winter blues» أو يمكننا أن نذكره باسمه العلمي «seasonal affective disorder»، وهي حالة تصيب الكثيرين حول العالم، فالإحصاءات تظهر إصابة ما لا يقل عن 50 إلى 80% من البشر حول العالم باكتئاب تغير المواسم.

أما عن الأعراض المصاحبة للحالة فهي تتنوع بين الرغبة في النوم بشكل مستمر، والميل الشديد لتناول الكربوهيدرات، والشعور بسوء الحالة المزاجية بصورة مستمرة مع بعض الصعوبات في التركيزـ بجانب القلق وزيادة الوزن وتزايد الشعور بالفتور والبلادة والنعاس، ويصاحب ذلك في كثير من الأحيان تناول كميات كبيرة من الطعام خلال اليوم.

بالطبع لا يمكن الجزم أن الأعراض السابق ذكرها يجب أن تنطبق على الجميع بالصورة ذاتها أو بالحدة ذاتها، فالأمر متغير ومتعلق بكثير من العوامل الصحية والنفسية، كما أنها ترتبط كذلك بنوعية الأنشطة التي اعتاد المرء القيام بها معظم الوقت، بجانب القابلية النفسية للانغماس في حالة من الاكتئاب، والتي قد تتحول مع بعض الأشخاص من مجرد اكتئاب موسمي إلى حالة اكتئاب فعلية طويلة الأمد.


شهور الظلام: «الشتاء قادم»

لا بد أن الكاتب جي مارتن مؤلف المسلسل الشهير «صراع العروش» كان سبَّاقًا في ذلك الأمر، فالجملة الشهيرة «winter is coming» كان المقصود بها في المسلسل أن الظلام هو السائد خلال الشتاء، وهو ما يقع في السياق الدرامي لفنتازيا المسلسل.

أما الحقيقة فقد كشفت دراسة حديثة عن أن النقص الشديد لفيتامين (د) في الجسم هو أحد أهم الأسباب الرئيسية للإصابة بحالة الاكتئاب الموسمي المرتبط بالشتاء، وأن هذا الاضطراب يرتبط بشدة بنقص كمية الضوء التي نحصل عليها خلال الشتاء، بعدم التعرض للشمس، أو بنقص المدة الزمنية التي نقضيها في مكان مضيء، وهو ما يلقي الضوء على جانب مهم من جوانب التعرض للاكتئاب، ربما لم يكن ملحوظًا من قبل.


كيف نفرق بين نوعي الاكتئاب؟

من الطبيعي أن يختلط الأمر على البعض، لاسيما وأن البعض لديهم ميل نحو الشعور بالاكتئاب، وفي كثير من الأحيان قد يكون الخلط وعدم التمييز الصحيح للفارق بين الاكتئاب الموسمي والاكتئاب المرضي أمرًا خطيرًا للغاية، فكيف نفرق بينهما؟

حدد البروفيسور ماتيو نيكولاس قاعدة مهمة يمكن التفريق من خلالها بين الاكتئاب الموسمي والاكتئاب المرضي، أول نقاط هذه القاعدة أن الاكتئاب الموسمي يبدأ من الخريف تقريبًا، وينتهي بحلول فصل الربيع، أي بعد انتهاء الموجة الحادة لبرودة الجو، والدخول في بدايات الاعتدال.

بجانب ذلك فإن مريض الاكتئاب يجب أن يجتمع لديه على الأقل 5 أعراض من بين مجموعة من الأعراض سنذكرها تاليًا، لمدة لا تقل عن أسبوعين متواصلين، بدرجة واضحة من الشدة، دون أن يشعر المريض خلالها أن هذه الحالة ستنتهي بتغير الجو العام، وأن شعور الضيق الذي يراوده يرتبط بالجو المحيط، أما عن الأعراض التي حددها نيكولاس فهي كالتالي:

1. الشعور بالحزن، وغلبة المزاج الاكتئابي.

2. فقدان الاهتمام بالأشياء التي اعتاد الشخص الاستمتاع بها.

3. تغير في الوزن بشكل واضح ومؤثر.

4. اضطراب عدد ساعات النوم، سواء كان ذلك بالزيادة أو النقص.

5. شعور مستمر بالتعب المستمر واللا مبالاة.

6. شعور مستمر بالذنب، وفقدان الشعور بقيمة الذات.

7. صعوبة في التركيز واتخاذ القرارات.

8. ميول انتحارية والتفكير في الموت.

وأضاف البروفيسور نيكولاس بعض المعايير الأخرى التي يمكن من خلالها القياس، وهي تغير الحالة النفسية بعد الجلوس في الشمس لبعض الوقت، أو التمشية خلال وقت سطوع الشمس.

فالشعور بالتحسن بعدها يعني أن شعور الاكتئاب هو مجرد حالة مؤقتة موسمية، وليست اكتئابًا مرضيًّا، وآخر هذه المعايير هو تغير الحالة النفسية بعد ممارسة الرياضة لبعض الوقت، فتحسن الدورة الدموية وممارسة النشاط البدني، ثبت ارتباطها بتحسن الحالة المزاجية، وهو ما يعني أيضًا أن شعور الاكتئاب مجرد حالة موسمية وليس اكتئابًا مرضيًّا.


كيف نواجه اكتئاب الشتاء؟

ربط مجموعة من العلماء مواجهة اكتئاب الشتاء ببعض الأنشطة والملحوظات المهمة، من بينها التعرض للشمس بشكل كافٍ يوميًّا للحصول على النسبة الكافية من فيتامين (د)، وهو الفيتامين الذي يلعب دورًا مهمًا في امتصاص الكالسيوم داخل الجسم، ونقصه ينتج عنه الشعور بالإرهاق المتزايد وفقدان الرغبة في الحركة.

تناول الأطعمة التي تحسن من آلية عمل الكبد والكلى من الخطوات المهمة أيضًا، فهما العضوان الأكثر إنتاجًا لفيتامين (د) داخل الجسم، ولذلك فإن الأطعمة التي تؤذي الكبد والكلي أو ترهقهما عن أداء وظائفهما بشكل سليم تلعب دورًا مهمًا في حدوث اكتئاب الشتاء، بجانب تناول الأطعمة الغنية بالبروتين مثل الدجاج، وكذلك الأطعمة الغنية بـ (أوميجا 3) مثل الأسماك، والفواكه مثل التوت والموز، وكذلك الشوكولاتة، والتقليل قدر الإمكان من تناول السكريات.

ختامًا، علينا أن نتفق على أن الاكتئاب المرضي حالة خطيرة من الواجب التعامل معها قبل أن تتوغل داخل النفس، أما الاستسلام للشعور المؤقت للاكتئاب فهو خطر مماثل، يجب التوقف عنه ومجابهته، قبل أن يتحول الأمر إلى خطر لا يمكن تداركه.