منذ بداية 2019 يشهد الجنيه المصري ارتفاعاً ملحوظاً مقابل الدولار، حيث ارتفع الجنيه بـ7% من قيمته في الأشهر الخمسة الأولى من 2019، ورغم أن نسبة الـ7% لا تزال صغيرة إذا ما قورنت بالفقد التي تعرضت له العملة المصرية جراء قرار التعويم منذ نوفمبر/تشرين الثاني 2016، حيث فقدت العملة المصرية ما يقارب من نصف قيمتها أمام الدولار.

لكن، وبعد مرور ما يقرب الـ3 أعوام يبدو أن الجنيه بدأ في التعافي، فمنذ بداية 2019 فقد الدولار ما يقارب 120 قرشاً، حيث سجل سعر صرف الدولار 16,7 جنيه في معظم البنوك الحكومية والخاصة. وهو الارتفاع الأكبر على مدار العامين الماضيين. لكن ما يثير الدهشة هو أن هذا الارتفاع جاء على عكس توقعات كثير من مؤسسات التحليل والتقييم الاقتصادية، والتي اعتبرت أنه بداية من 2019 سوف يشهد الدولار ارتفاعاً كبيراً أمام الجنيه في حدود 5%، وبعضها توقع أن يصل الدولار إلى 20 جنيهًا بنهاية 2019، خاصة بسبب قوة الدولار على الصعيد العالمي،والارتفاعات في سعر صرفه مقابل العملات المحلية في الأسواق النامية مثل مصر.

يحاول هذ التحليل أن ينظر في عدد من الاحتمالات التي يمكن أن تدعم أو تنفي فرضية «أن ارتفاع الجنيه أمام الدولار هو ارتفاع مفاجئ وسوف يعود الدولار للارتفاع مرة أخرى».

لا يحاول التحليل التنبؤ بالسعر المستقبلي للجنيه أمام الدولار، لأن سوق العملة في مصر معقد وتغيب في أحيان كثيرة فيه الأرقام التي يمكن أن تساعدنا في التنبؤ بطريقة قاطعة، وهذا ما يُفسر جزئيًا خطأ توقعات المؤسسات الدولية سالفة الذكر.


لماذا انخفض الدولار؟

علينا التأكيد أولاً أن الارتفاع الحادث في قيمة الجنيه هو طفيف إذا ما نظرنا إليه من خلال ثلاثة عوامل للتقييم:

  1. قصر الفترة الزمنية، حيث استمر هذا الارتفاع لمدة 6 أشهر فقط حتى الآن.
  2. نسبة الارتفاع نفسها 7 % فقط.
  3. أن هذا الارتفاع نتج عن عوامل غير جذرية في بنية الاقتصاد، بمعنى أنها عوامل غير هيكلية في تحفيز قدرة الاقتصاد علي المدى الطويل على توليد العملة الصعبة، وبالتالي المساهمة في استقرار الجنيه حالياً.

يبدو أن العامل الأساسي في ارتفاع الدولار هو زيادة الطلب على أدوات الدين الحكومية، سواء المحلية أو المقومة بالدولار من المستثمرين الأجانب، خاصة في ظل أزمة الدين في الأسواق الناشئة والتي تعتبر المنافس الحقيقي لمصر في سوق السندات الدولية.

منذ بداية 2019، وفي يناير/كانون الثاني فقط ارتفعت استثمارات الأجانب في أدوات الدين المصرية بنسبة 21.6% لتصل إلى 233.8 مليار جنيه، أي ما يعادل 13.36 مليار دولار، مقارنة بنحو 192.2 مليار جنيه (نحو 11 مليار دولار) في ديسمبر/كانون الأول 2018، وفقا للنشرة الإحصائية الشهرية الصادرة عن البنك المركزي المصري.

كما ارتفعت استثمارات الأجانب في أذون الخزانة المصرية بنسبة 7% في فبراير/شباط الماضي، لتُسجل 14.6 مليار دولار. وكانت استثمارات الأجانب قد تراجعت لفترة 9 أشهر متتالية من أبريل/نيسان إلى ديسمبر/كانون الأول 2018، نتيجة هروب الأجانب من الأسواق الناشئة في ظل التطورات العالمية. وفقدت الاستثمارات الأجنبية خلال هذه الفترة نجو 10.82 مليار دولار بعدما وصلت لأعلى مستوياتها خلال مارس/آذار بقيمة 21.553 مليار دولار.

عامل آخر ساهم بشكل مباشر في زيادة المعروض من الدولار وهو إلغاء آلية تحويل المستثمرين الأجانب، وهي الآلية التي اعتمدها البنك المركزي المصري منذ 2013 لضمان تحويل الأرباح للمستثمرين الأجانب للدولار حين رغبتهم في الخروج من السوق. يعني ذلك أنه حين يريد المستثمر الخروج من السوق المصري فإن البنك المركزي يحول له أرباحه بالدولار. إن إلغاء العمل بهذه الآلية أدى إلى حدوث وفرة في المعروض الدولاري بالبنوك، ودخول تدفقات دولارية جديدة مباشرة إلى القطاع المصرفي، وليس عبر البنك المركزي فقط كما كان في السابق.

هناك عوامل أخرى ساهمت في انخفاض الدولار أهمها زيادة تحويلات العاملين المصريين في الخارج، وإيردات السياحة التي بدأت الانتعاش منذ يناير/كانون الثاني 2019. حيث تمثل تحويلات العاملين في الخارج ما يقرب من نصف الموارد الدولارية التي تعتمد عليها الدولة في تمويل عمليات الاستيراد الأساسي. ويحاول البنك المركزي التأكيد على أن تعافي الجنيه كان للأسباب الماضية بالإضافة لزيادة الاحتياطات النقدية للبنك من الدولار.


تعويم حر أم تعويم مُدار؟

إذن نحن أمام زيادة تبدو للوهلة الأولى طبيعية، لماذا لم تتوقعها إذن وكالات التصنيف الائتماني وبنوك الاستثمار؟

هنا يمكننا التخمين أن غياب الأرقام لعب دوراً كبيراً، حيث بنت وكالات التصنيف تحليلها على أن الزيادات السابقة لن تؤدي لانخفاض الدولار، بسبب أن الدولار يرتفع أمام جميع عملات الأسواق الناشئة في العالم، وأن قوته تزداد يوماً بعد يوم بفعل عدد من الظروف الاقتصادية العالمية.

أيضاً يمكن أن نعزو السبب لأن حجم سوق العملة في مصر غير مرصود بشكل كامل، لا نعرف كم متبقٍ من هذا السوق في القطاع غير الرسمي حتى الآن رغم ادعاءات البنك المركزي أن التعويم قضى بشكل كامل على السوق السوداء للعملة، فإنه من المستحيل ذلك عملياً لأسباب كثيرة تتعلق بنمط الاقتصاد في مصر وعدم ثقة معظم المصريين في القظاع البنكي.

هنا يأتي السؤال حول مدى تدخل البنك المركزي في تحديد سعر الصرف؟ وهل يعبر سعر الصرف الحالي عن السعر الحقيقي للدولار أمام الجنيه؟

في مذكرة بحثية لشركة أبحاث السوق «لايت هاوس»، وهي شركة مقرها دبي، وتقوم بأبحاث معمقة حول منطقة الشرق الأوسط تحديداً،توقعت الشركة أن الجنيه المصري ما زال يخضع لإدارة محكمة من قبل البنك المركزي، وأنه لا يعمل وفق نظام سعر صرف حر كما هو معروف.

ترى المذكرة أن استقرار سعر صرف الجنيه حتى نهاية يناير/كانون الثاني الماضي لا يوجد ما يُفسره، حيث تحرك سعر صرف الجنيه في نطاق ضيق للغاية في الفترة من مايو/آيار الماضي وحتى مطلع العام الجاري في خضم الأزمة العاتية التي نالت من أصول الأسواق الناشئة. وتابعت المذكرة:

تضيف المذكرة أيضًا أن الاحتياطيات الأجنبية للبلاد ارتفعت من مستويات بلغت نحو 19 مليار دولار في نوفمبر/تشرين الثاني 2016 إلى مستويات 44 مليار دولار بنهاية أبريل/نيسان، ولكن تشير المذكرة إلى أن القفزة في الاحتياطيات الأجنبية جاءت خلال الفترة حتى فبراير/شباط 2018، والتي ارتفع فيها الاحتياطي بنحو 23.5 مليار دولار نتيجة تدفقات المستثمرين الأجانب في أذون الخزانة المحلية، بينما بلغ حجم الزيادة في تلك التدفقات من مارس/آذار 2018 حتى نهاية أبريل/نيسان الماضي نحو 1.7 مليار دولار في ضوء أزمة الأسواق الناشئة.


كيف يتحكم البنك المركزي في سعر الدولار؟

في الأسابيع الماضية، خالف الجنيه المصري أداء غالبية الأسواق الناشئة مع ارتفاعه بنحو 4% مقابل الدولار ليتم تداوله حول مستويات 16.8 جنيه للدولار بنهاية مايو/آيار. وعلى النقيض، فإن عملات الأسواق الناشئة الأخرى -على غرار الـ«وون الكوري» والـ«راند الجنوب أفريقي» والـ«ليرة التركية»
تراجعت جميعها أمام الدولار بنسب بلغت 6% و4% و15% على التوالي.

تمتلك الحكومة المصرية 6 بنوك بشكل مباشر تتبع قانون قطاع الأعمال العام، أكبر تلك البنوك هي بنك الأهلي ومصر والقاهرة، ويمتلك البنك المركزي المصري حصصاً في بنوك خاصة أخري. منذ التعويم زادت نسبة تعاملات البنوك السابقة في سوق الصرف، كتعويض عن إغلاق ما يقرب من نصف شركات الصرافة، التي يحاول البنك المركزي من قبل قرار التعويم التضييق علي عملها في مصر، ويعتبر أنها كانت مسئولة عن ارتفاع سعر الدولار في الفترة التي سبقت التعويم.

يتيح هذا التحكم في سوق الصرف للبنك المركزي أن يمارس ضغوطاً علي تقييم الدولار في السوق، سواء عن طريق طرح عطاءات غير معلنة للبنوك الحكومية الكبرى أو التيسير على تلك البنوك بإعطائها ما تريده من الدولار.

من الطبيعي أن يتدخل البنك المركزي في تحديد سعر الصرف، من أجل السيطرة على التضخم، فالبنك لا يريد قفزة كبيرة في سعر الدولار (overshooting) كالتي حدثت في 2017 عندما تخطى سعر الدولار حاجز الـ18 جنيهًا، وقفز التضخم على أساس سنوي لـ32%. لذلك كان الكثير من خبراء الاقتصاد مع فكرة التعويم المدار لفترة من الزمن يتبعه تحرير كامل لسعر الصرف. لكن بما أن البنك المركزي قرر اللجوء لتعويم حر، فإن التدخل في السوق يمكن أن يعطي مؤشرات خطيرة للمستثمرين في الأسواق المصرية، وخاصة هؤلاء الذين يُضاربون في الدولار. من شأن إدراك المستثمرين أن البنك المركزي يتلاعب -ضمنياً- في سعر الدولار، أن يدفعهم إلى تخزين الدولار، ومن ثَمَّ توليد أزمة عملة كبيرة في السوق في المستقبل.

ولكن، ثمة عددًا من المؤشرات الإيجابية في الاقتصاد يُعتقد أنها لن تساهم في نمو حركة مضاربة واسعة على الدولار في الفترة القادمة، حتى إن انكشفت ما يمكن أن نسميه «لعبة البنك المركزي»، وهي أن معدل الربح من الدولرة (أي تخزين الدولار ) هي أقل، لأن البنك يحافظ عليه في مستوى أقل من 18 جنيهًا لضبط التضخم كما أسلفنا، كما أن معدلات الفائدة العالية في البنوك وتخزين المدخرات في العقارات أقرب لثقافة الاستثمار عند أغلب المصريين من الدولرة. لكن لا تنفي تلك المؤشرات خطورة الموقف، فمن شأن تكشف تلك «اللعبة» أن يرفع الدولار لمستويات قياسية. من الجائز أن يسيطر المركزي لاحقاً على هذا الارتفاع بحكم قدرته على ضخ الدولار، لكن هذا سوف ينتج موجة تضخمية سوف تستمر لفترة غير قصيرة من الزمن.


في النهاية، لا يمكننا الجزم بأن الجنيه سوف يشهد المزيد من المكاسب في المستقبل، ما لم تستطع الحكومة علاج المشاكل الأكبر في الاقتصاد، والتي تتعلق في الأساس بقدرتها على توليد العملة الصعبة. وما لم يحدث نمو كبير في إيرادات قناة السويس أو تحويلات العاملين في الخارج أو إيرادات السياحة، فسوف يقف الجنيه على حافة الخطر أمام الدولار.