يجلس مع أصدقائه على المقهى الذي اعتادوا الجلوس عليه منذ سنوات، يبدأ الحديث بينهم عن مباراة ريال مدريد ليلة أمس وما حدث فيها، يسمع أحد أصدقائه يقول إن بنزيما هو أفضل 9 في العالم حاليًا، يعترض صديق آخر ويقول إن فائدة بنزيما كانت أكبر بكثير عندما كان يقوم بدور ال 9.5!

يدرك صاحبنا من خلال خبرته الجيدة بكرة القدم أن صديقه الأول يقصد مركز المهاجم الصريح بشكله الذي اعتدنا عليه من سنوات، هو سمع ذلك المصطلح كثيرًا من قبل، لكن ماذا عن ال 9.5 تلك؟ يبدو أن الصديق الثاني متابع أكبر وأكثر خبرة من الأول، بل منا جميعًا.

يحتد النقاش كعادة النقاشات الكروية على المقاهي المصرية، تتعالى أصوات الشباب، كل متحمس لرأيه، فيقرر صاحبنا اللجوء إلى هاتفه المحمول وتصفح منشورات بعض ممن يتابعهم على الفيسبوك، بعد ثوانٍ قليلة يصادف منشورًا لأحد المحللين الكرويين الذين يتابعهم منذ شهور.

صور عديدة بها دوائر ملونة حول اللاعبين، وخطوط مقطعة تصل بينهم، صور أخرى بها مساحات مظللة وأخرى غير مظللة جذابة للعين أيضًا، ثلاثة خطوط ممتدة بين ثلاثة لاعبين تصنع مثلثًا، ومئات الكلمات التي يشرح خلالها محلله المفضل عبقرية المدرب في جعل هؤلاء اللاعبين بهذا الشكل في حالة الخروج بالكرة أو الضغط على الخصم!

يتعجب صاحبنا ويسأل نفسه: أليس من الطبيعي أن أي ثلاث نقاط ليست على استقامة واحدة تمتد بينهم خطوط مستقيمة سيصنعون مثلثًا؟ أين العبقرية إذن؟ أي ثلاثة لاعبين في الملعب أستطيع أن أصل بينهم بخطوط مستقيمة وأصنع مثلثي الخاص وأصف عبقرية المدرب مثله! لا يهم، الكلام يبدو منمقًا وهذا الرجل يفهم ما يقوله بالتأكيد.

يضغط الشاب زر الإعجاب. لا يكتفي بذلك فحسب، بل يقوم بكتابة تعليق: «إيه العظمة دي!» ولم ينسَ القلب الأحمر بكل تأكيد.

لست وحدك

أعلم صديقي ذلك الشعور الذي ينتابك بين شوطي كل مباراة، حين ترى الجميع يدلي بدلوه في أفكار كلا المدربين وما فعلاه للسيطرة على الخصم والاستحواذ على منطقة وسط الملعب، الجميع يلاحظ تحركات اللاعبين وتغطيات المدافعين وسقوط المهاجمين لنصف الملعب بهذه السرعة ومن المشاهدة الأولى للمباراة، إلا أنت!

دعني أحمل خبرًا سعيدًا لك الآن، وهو أن المحلل الرياضي الإنجليزي الأهم في صحيفة الجارديان «جوناثان ويلسون» يشاركك نفس الشعور، دعني أخبرك أيضًا أن ويلسون هو مؤلف الكتاب الشهير «الهرم المقلوب» والذي يُعد مرجعًا لتطور تكتيك كرة القدم منذ القرن التاسع عشر وحتى الآن.

في محاضرته بجامعة أيرلندا الوطنية بمدينة غالواي، قال جوناثان إن الناس عادة ما يطلقون أحكامًا سريعة في كرة القدم. تشاهد مباراة واحدة فتحاول أن تقولب مشاهدها لخدمة وجهة نظرك فقط دون أن تشعر، تشاهد موسمًا واحدًا لفريق ما فتقول إن هذا هو أفضل فريق شاهدته في الـ 20 سنة الأخيرة مع أنك لم تشاهد أي فريق آخر بنفس الدقة والشغف!

يؤسفني أن أخبرك أيضًا أن غالبية المنشورات التي تقرأها عقب انتهاء المباريات بدقائق مبنية على آراء شخصية بحتة، لأن ويلسون نفسه صاحب التقارير التحليلية الأنجح والأكثر انتشارًا في مونديال روسيا 2018 قال إن تحليل المباراة يستوجب مشاهدتها مرات أخرى، وما كان ينشره بعد انتهاء المباراة هو تناول سريع للإحصائيات العامة دون التعمق فيها والوصول لأفكار المدربين بالطبع!

وماذا عن الإحصائيات؟

السؤال الآن هو: وماذا عن الإحصائيات التي تعج بها المواقع عقب انتهاء المباريات ويستخدمها الناس في مناقشاتهم المحتدمة أغلب الوقت؟

يجيبنا جوناثان عن هذا السؤال في فيلم وثائقي أنتجته شبكة سيريات لصناعة المحتوى منذ خمس سنوات تقريبًا، يقول ويلسون إن الإحصائيات شيء جيد في كرة القدم الحديثة بالطبع، لكننا حتى الآن نستخدمها بشكل ساذج للغاية في أحيان كثيرة. الإحصائيات تضع الأطر العامة فقط؛ أما الباقي يأتي بالمتابعة والتحليل البشري الذكي.

يبدو الأمر منطقيًا للغاية، فبعيدًا عن استخدام العنصر البشري للإحصائيات بشكل من الممكن أن يكون موجهًا بشكل أو بآخر، هناك عنصر آخر يجب الانتباه إليه وهو هامش الخطأ الحتمي في صناعة تلك الإحصائيات سواء كان القائم بها آلة أو إنسانًا، هامش خاطئ لا يتناسب أبدًا مع الحساسية المفرطة التي صار الجمهور يتعامل بها مع الإحصائيات!

السؤال الحتمي الآن هو: لماذا يصر أغلب متابعي كرة القدم على الولوج إلى تلك المنطقة المعقدة من كرة القدم؟ لماذا يصرون على اقتحام هذه المساحة بتلك الكثافة مؤخرًا، خاصة في عالمنا العربي؟

لا يمكن أن أخسر النقاش

نُشر تقرير منذ أيام قليلة في صحيفة التليجراف عنوانه «علم التأثير على الآخر: 6 طرق يفوز بها الإنسان في أي نقاش»، لفت انتباهي بشدة طريقتان من الطرق الستة المذكورة في التقرير: الأولى هي «اسأل بـ كيف دائمًا وقلل السؤال بـ هل» أما الثانية فهي «املأ فراغات النقاش دائمًا بقصص أو معلومات تبدو منظمة لديك».

تحديدًا هذا ما يجعل العديد من الناس يلجأون لمساحة التكتيك المعقدة التي لا يفهمونها جيدًا في أغلب الأحيان، الرغبة الدائمة في الانتصار في النقاش، صارت النقاشات أعقد وأكثر امتدادًا من ذي قبل بعد انتشار السوشيال ميديا.

صار الناس يلجأون لهاتين الطريقتين بشدة، يسأل صاحبنا خصمه «كيف ذلك؟» فيبدأ ذلك الخصم بالبحث عن أي شيء من المباراة يحسن به شكله أمام الناس في هذا النقاش، حتى وإن لم يفهمه جيدًا، بعد ذلك يلجأ صاحبنا للحيلة الثانية بملء فراغات الحوار أو المبادرة في طرح حجج تكتيكية معقدة من المباراة، فيبدأ الخصم في الرد بحجج أخرى أكثر تعقيدًا.

صار الأمر كالبالونة التي تنتفخ مع كل نقاش، لكنها لا تنفجر في وجه أصحابها للأسف؛ لأن أحد أسرار جمال كرة القدم هي حفاظها على مساحة واسعة من النسبية.

مساحة جديدة للتميز

السبب الثاني الذي قد يدفع الناس إلى مساحة التكتيك المعقدة من كرة القدم هو محاولة إيجاد منطقة تميز جديدة.

الأمر أشبه بما يحدث على الإنستجرام، تشاهد صورًا مميزة للغاية فيزيد إحساسك بعدم الرضا عن حياتك وتتعاظم رغبتك في النرجسية، فتصبح تصرفاتك أغرب وقائمة على عدم الفهم الواضح كما تقول الباحثة «إليزابيث سو» في تقريرها على موقع «Talk space» للعلاج النفسي.

يتكرر الأمر على السوشيال ميديا، الآراء كثيرة ورائجة في سوق كرة القدم، صار المتشابه كثيرًا للغاية فلابد أن أخلق لي مساحة جديدة ومتميزة للغاية حتى وإن كنت لا أدرك أبعادها جيدًا.

ماذا أفعل إذن؟

أعلم أن هناك من وصل إلى هذا الجزء من المقال وصوت ما بداخله يطالبني بعدم التعميم وأن هناك أشخاصًا كثيرين يفهمون ما يكتبون في تلك المساحة، حسنًا صديقي، لن أعمم، وبالفعل هناك أشخاص يفهمون ما يكتبون في تكتيك كرة القدم في عالمنا العربي، لكن دعني أختلف معك في أنهم كثيرون، هم نادرون للغاية.

إذا أردت أن تكون من هؤلاء النادرين، فإن الأمر يتطلب مشاهدة المباراة الواحدة عدة مرات ومن زوايا تصوير مختلفة ودراسة جيدة للإحصائيات دون تحيز، والقراءة المستمرة لرواد التحليل الرياضي حول العالم. إذا وجدت نفسك محبًا لتلك الخطوات ومقبلًا على تكرارها دون ملل، فاعلم أنك لا تصطنع الاهتمام بتكتيكات كرة القدم المختلفة.

حينها ستكتسب الإحساس اللازم الذي يمكنك من ملاحظة تحركات اللاعبين داخل أرضية الملعب بسهولة واستنتاج أفكار المدربين، وستشعر بالسعادة وأنت تصف المهاجم غير الصريح بال 9.5، ووسط الملعب المدافع صاحب بعض المهام الهجومية بال 6.5، وصانع الألعاب المائل للأجنحة بال False 10، ستشعر بالسعادة حينها لأنك أخيرًا صرت تفهم ما تقول.