أحيانًا، لا تساعدنا أجسادنا على رؤية الحياة من منظور أكثر اتساعًا، عيوننا التي اعتادت النظر إلى الأشياء عينها بنفس الطريقة وأجسادنا التي تسلك الطرق نفسها، كل الحواس والأفكار الخاصة بنا تضعنا في نفس التجربة، أحيانًا لكي نفهم الحياة علينا أن نسكن أجسادًا أخرى، نرى بعينها ونتأمل ما تراه، لا ننصت فقط، لا نقرأ كلماتهم المنثورة عبثًا على مواقع التواصل أو في الرسائل الخاصة أو حتى في جلسات الثرثرة على المقهى، ما أقصده أن نخوض التجربة بعيونهم، أن نختبر ألمًا آخر ونفكر في معنى مختلف للحياة. توفي محمد أبو الغيط قبل أيام، بعدها صدر كتابه «أنا قادم أيها الضوء» الذي يحكي فيه تجربته مع السرطان اللعين، والتي انتهت بلحظة الموت التي تنبأناها مثله وكنا ننتظرها كأنها المصير الذي لا فرار منه. لم تمنعني معرفة رحلة مرضه ونهاية آخر فصولها الدرامية عن اقتناء الكتاب وقراءته، أحيانًا ندخل الرحلة لنخوض التجربة فقط لا طمعًا في حتمية الوصول إلى نهاية أفضل.

أنا متشبث جدًّا جدًّا بالحياة لآخر نفس.

لاعب النرد

بجسد يتداعى وأنفاس مقاتلة يسرد محمد أبو الغيط في كتابه بداية اللحظة الكابوسية التي عرف فيها أنه مصاب بالسرطان، لم يكن خبرًا هينًا على شاب في سنه، لم يكن المرض الخبيث وراثيًّا في جينات عائلته. لا بأس، ما من مجال للهروب من هذا العدو المهاجم، عليه الآن أن يضع الخطة التي سيهاجم بها هذا الضيف المزعج الذي يحتل جسده، معركة على أحدهما أن ينتصر فيها. يسرد أبو الغيط تفاصيل مرضه، أين أصابه ومسارات المرض ورحلته العلاجية مع الأطباء في لندن، يكتب تفاصيل دقيقة عن كل شيء وكأنه يترك ورقة علمية قد تنفع الأطباء مستقبلاً، أو حتى المرضى مثله، يحكي ولا يبخل بالحكي كل الكتب التي قرأها عن المرض والمقالات الطبية ومراكز العلاج التي جرب معها علاجات تجريبية ربما لن تساعده بقدر ما ستساعد الأطباء في البحث عن علاج لهذا المرض الخبيث.

وصلنا للعام 2022 وما زال الطب يقف عاجزًا أمام قسوة هذا المرض على جسد المرضى، لأنه خبيث لا يمكن التنبؤ بخطواته القادمة، ولا التنبؤ بوجوده من أول وهلة، سيحتاج المريض أن يستأصل من جسده ليمنع تفشي المرض، معارك داخلية أرضها هو جسد المريض، وجسد أبو الغيط ظل صامدًا، يحاول حتى آخر نفس، يأمل أن تزيد الأعوام القليلة المتبقية أمامه، لكن المعركة الحاسمة سيكون لها حسابات أخرى، والجسد الذي يقاتل لن يصمد كما كان يأمل صاحبه. عام 2022 يموت أبو الغيط بعد أن أتم الرابعة والثلاثين من عمره، إنه في مثل عمري تمامًا، يأكلني الحزن والأسى على قسوة الحياة غير العادلة، وأتذكر أيام الثورة عندما قلنا ورددنا مع كل شهيد يسقط بجوارنا: لماذا لا يموت ولاد الوسخة؟ ذلك لأن كل من ماتوا وفقدناهم كانوا الأنقى.

يقول عالم الأنثربولوجي الفرنسي دافيد لوبروتون: «حين يلم الألم بشخص ما، فهو لا ينحصر في مقطع ما من الجسد أو في مسار عصبي ما، بل هو يسم الفرد المفرد ويجاوزه ليمسَّ علاقته بالعالم». أثناء قراءتي لكتاب محمد أبو الغيط لم أجد سوى علاقة طيبة وشاعرية تنشأ بينه وبين العالم، اختار لنفسه أن يبتعد عن كل الأخبار التي تنغص عليه وتفسد مزاجه، اختار القراءة ومشاهدة الأفلام وقضاء أيامه في الزراعة، وقضاء الوقت المتبقي له مع زوجته وابنه، اختار أن يكتب، يمنعه الألم بالأسابيع عن ممارسة حياته العادية لكنه يعود من جديد إلى العالم الذي اختار فيه أن يحيا، أن يدوِّن كل مشاعره بشكل صادق دون دراما أو تزييف. لا يمكنني إلا أن أقرأ بين السطور صدق حقيقي في كتابته، مثالية نابضة وعلاقة مع الألم تتشكل بالتدريج، يحاول أن يفهم الألم الذي يستوطنه، يفككه ويتتبع مساراته، ومسارات كل ألم مر به على مدى حياته. كان «سؤال الألم» أصعب فصول الكتاب وأقساها، ينفلت أبو الغيط من ألمه الجسدي الحالي إلى أول اختبارات الألم، عندما ضربه المدرس ظلمًا في المدرسة، وعندما تعرض جده للتعذيب في سجون عبد الناصر، وعندما طُبع المصريون مع التعذيب باعتباره تأديبًا، هذا هو أبو الغيط، يتنقل بين تواريخ الألم من الشخصي إلى العام، ربما لهذا لا أتعامل مع كتاباته باعتبارها تجربة ذاتية فحسب، بل هي انفلات مؤلم من جسد لأجساد أخرى، ومن شأن لآخر، وهو بخبرة كاتب محنك وأسطى كتابة يعرف كيف ينتقل بسلاسة بين مشهد وآخر، فلا يجد القارئ نفسه مشتتًا أو تائهًا أو يسأل نفسه لماذا يتفرع في الكتابة ويبتعد عن النقطة الرئيسية، ذلك لأن ذاكرته التي تتدفق ترسم مساراتها وتشتبك مع كل القضايا وكأنها قضيته الوحيدة.

وثمة متعة ما في الانتماء لقضية ضخمة جدًّا تساهم فيها بأثر فراشة ضئيل جدًّا.

لم يخلق أبو الغيط من ألمه ملحمة تراجيدية، ابتعد تمامًا عن البكائيات والدراما الكبرى، هذا طبع رجل يبتلع غضبه وألمه ويحاول أن يفهمه لا أن يتاجر به أو يستعطف به أحدًا، في أول فصول الكتاب «لماذا أكتب؟» يحاول أن يجيب على هذا السؤال، يتذكر متون الأهرام وحياة القدماء الذين بعد حصولهم على الأكل والشرب والمأوى اكتشفوا أنهم يريدون أن يوثقوا أنهم مروا من هنا، وهذا ما كان يشغله، أن يترك بصمة ما، أن يمنح أعوامه الأربعة والثلاثين معنى، عندما يشتد به الألم في أواخر أيامه كان يصرخ «لماذا أنا؟» فتعود دائرة الأسئلة من جديد. بينما أقرأ سطور الكتاب وأنا أنعم بحياة طبيعية عادية تخلو من الألم أسأل نفسي مثله «لماذا هو؟» وكأن ألمه الشخصي أصبح جزءًا من أسئلتي الكبرى للحياة، أحاول أن أجد تفسيرًا، لكن جسده الهذيل لا يمنح إجابات حاسمة، حتى هو في رحلة بحثه عن إجابة لا يصل لشيء يسكن عنه هذا الألم ويمنحه إجابة شافية. يقول أحمد سمير، بنبرة لا تخلو من المرارة، في مقاله الأخير عن صديق عمره ورفيق رحلته أبو الغيط: «لا أعرف لماذا هُزمنا ولا لماذا هاجرنا ولا لماذا مرضنا، لا أعرف سببًا ولا أعرف معنى». وأنا مثل أحمد أسأل كل هذه الأسئلة التي تقتحم رأسي وأضيف عليها: «لماذا ألم محمد أبو الغيط تحديدًا يؤلمني؟»

حين شاركت في الثورة كنت أحلم بوطن أكثر عدلاً، وأقل ألمًا.

لم يشتبك الصحفي محمد أبو الغيط مع الثورة فحسب، بل اشتبك مع هذا الخيط الرقيق الحالم بعالم أفضل، دولة أكثر عدلاً ورحمة، بتلك الأحلام الوردية والمثالية التي كانت تلوح في سماوات أحلامنا أيام الثورة، تلك المثالية التي قتلتها أشواك الواقع ومعارك الخصوم والقوى المتصارعة على مقاعد السلطة. تلك الأحلام المهدرة التي عشناها واختمرنا بها تتمثل أمامي في جسد أبو الغيط المتآكل من المرض، وكأن هلاكه يعني هلاك هذا الحلم، وهذا الجيل الذي مسه الحلم مرة، وكأن الأحلام المثالية تجرح أصحابها لأنها هشة لا تصمد طويلاً أمام رياح الواقع العاتية. يقول أبو الغيط عن البذور التي زرعتها فيه أمه بأنها «قيم مثالية ربما تكون قد جعلت حياتي أصعب لكنهل أرضى للقلب». لم أرَ أبو الغيط يومًا شابًّا عاديًّا من شباب الثورة، أو صحفيًّا استقصائيًّا ينبش بأظافره عن جذور الحقيقة فحسب، بل مجازًا للمثالية التي أنشدها لعالم أفضل، لم يتحقق هذا العالم، ولم يصمد أبو الغيط في الحياة كثيرًا. 

إن كان لا بُدَّ من حُلُمٍ،
فليكُنْ مِثلَنا .. وبسيطًا
كأنْ: نَتَعَشَّى معًا بعد يَوْمَيْنِ
نحن الثلاثة،
مُحْتَفلين بصدق النبوءةِ في حُلْمنا
وبأنَّ الثلاثةَ لم ينقصوا واحدًا
محمود درويش، قصيدة لاعب النرد

ثم ولدت مشاعر أخرى..

لم تكن مثاليته في الثورة وحدها، بل في أدق تفاصيل حياته اليومية، كان مثاليًّا حتى في مشاعره تجاه أسرته وزوجته إسراء التي يتغنى بها ويتكئ على ساعدها فتمنحه قوة يقسم إنها حقيقية.

مثالية أبو الغيط صادقة لا ادعاء فيها، ولكنها، ككل الأمنيات الحلوة، تموت سريعًا ولا تصمد طويلًا، كشهداء سقطوا قبل أن يكملوا زراعة أرضهم الوحيدة فتركوها بورًا. لا ينتمي أبو الغيط لنفسه وحدها، بل ينتمي لكل الأمنيات التي لم يحققها جيلي، من شارك في الثورة في مطلع عشرينياته، من رأى بعينه الموت والحقيقة والغدر والأمل، وفي نهاية الرحلة لم يحصد سوى اليأس، والحزن على حلم أُجهض قبل أن يتنفس من هواء الدنيا. إنه ككل الصادقين يكره «الأمل الكاذب» فهو أقسى من اليأس. يقول أبو الغيط واصفًا ألمه «اتقيأ روحي» تمامًا كما نتقيأ أملنا الوحيد في حياة أكثر رحمة.

لا أريد أن يكون تعريفي وهويتي هما «مريض سرطان» بينما ينمحي كل شيء آخر.

لا أتعامل مع الكتابات الذاتية باعتبارها محض ثرثرات شخصية، بل هي جزء من وثيقة إنسانية تسرد حكاياتنا الكبرى والعابرة، وكل وثقية يكتبها هذا الجيل، مهما كانت خاصة أو عامة، هي جزء من تأريخ لجيل بأكمله ما زال يفهم مشاعره تجاه نفسه وتجاه أسئلة الحياة التي خذلته في زحام من التخبطات الاجتماعية التي تحاوطه. ربما ستوثق كتب التاريخ أن هذا الجيل مر بأيام عصيبة، جملة قصيرة تختزل سنوات وأيامًا ولحظات كأنها دهر، لكن الكتابات الذاتية تملك صدق الحقيقة ونبل الرؤية. يسرد أبو الغيط أيام الأمل والألم، لا يقول إنها أيام عصيبة فحسب، بل يفردها على اتساعها ويحكيها ويتأملها، يدون كأيام التدوين قبل الثورة، ونحصدها نحن الآن بين صفحات كتابه، ونتجول معه في حقول ألمنا الخاص وأسئلتنا التي لا تنتهي، لعل أجيالًا قادمة تقرأ كل هذا الألم وتقول إن رجلًا من هذا الجيل دخل التجربة وقاوم حتى النهاية وببسالة محارب تصدى للموت في أرض ميدانه، لكن ما حدث أنه «عند نقطة معينة من انخفاض جودة الحياة يصبح الموت أفضل».

يؤلمني ضوء محمد أبو الغيط لأن القلب لم يعد يحتمل موت أحلام أخرى.