تتقلب موازين السياسة كل لحظة. المصالح تختلف فتتغير معها توجهات الحكومات. قائمة الأصدقاء والأعداء تتبدل دون توقف. لكن في وسط هذا البحر المتلاطم تبدو جنوب أفريقيا ثابتة فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية. فدائمًا ما توجد في الصفوف الأولى للدول الداعمة لحق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره. ومؤازرةً له في كفاحه ضد الفصل العنصري الإسرائيلي، وضد انتزاع سيادته على أرضه، وسلب حقوق شعبه في الحياة الحرة.

بعض مواطني جنوب أفريقيا صرّحوا أثناء العدوان الإسرائيلي الأخير على غزة بأن حريتهم لن تكتمل حتى يحصل الفلسطينيون على حريتهم. لا وجود لقاسم مشترك بين البلدين، لا أغلبية مسلمة في جنوب أفريقيا، كما أنها دولة غير عربيةK لكن يبدو أن القاسم المشترك بين الدولتين هو الألم، فقد تجرعت الدولتان من الكأس نفسها على مدار عقود طويلة.

هو ما وضحه الرئيس الجنوب الأفريقي، سيريل رامافوزا، حين ألقى خطابه عن ضرورة إيجاد حل سريع لما يحدث في فلسطين، وأشار رامافوزا إلى أن مشهد الرجال والنساء والأطفال الذين طردوا من منازل عائلاتهم التي يملكونها منذ أجيال طويلة، ومشاهد الإزالة القسرية للمنازل، وعمليات سلب الأراضي، كل ذلك يُعيد للأذهان ذكريات جماعية وشخصية مؤلمة لغالبية سكان جنوب أفريقيا.

الخطاب نفسه جاء في ظروف تكشف التشابه العميق بين الدولتين، فكان الخطاب في ذكرى مذبحة بولهوك، التي حدثت في منطقة كيب الشرقية، في تلك المذبحة أطلقت قوات الآبارتايد، الفصل العنصري، النار على المُصلين. المدافع الرشاشة التي استخدمتها القوات أسفرت عن قتل 160 شخصًا، وإصابة 130 آخرين، تزامن الخطاب والذكرى مع حادثة اقتحام قوات الاحتلال الإسرائيلي للمسجد الأقصى ومهاجمة المصلين المرابطين فيه، في مايو/ أيار 2022.

رامافوزا أشار لهذا التزامن، وأردف أيضًا أن المذبحة لم تكن بسبب نزاع محلي، بل كانت متعلقة في الأساس بمصادرة الأراضي قسرًا، والاحتلال الاستعماري، والفصل العنصري. ثم أوضح أن كل ذلك يتشابه مع ما تقوم به قوات الاحتلال الإسرائيلي، آنذاك، في حي الشيخ جراح.

الألم المشترك يجمعنا

الملفت في جنوب أفريقيا أن الضغط ينبع من الشارع، وتتجلى مظاهره في مواقف الحكومة. فسكان جنوب أفريقيا يدعمون القضية الفلسطينية منذ لحظة ولادة حركة تحرير جنوب أفريقيا. وكان للحركة علاقة وثيقة بمنظمة التحرير الفلسطينية. ويزداد الضغط كلما زادت إسرائيل في هجومها على غزة، أو سائر فلسطين. والمطالبة بقطع العلاقات الدبلوماسية مع إسرائيل مطلب شعبي منذ ولادة الديمقراطية في جنوب أفريقيا عام 1994. ولا تستجيب الحكومة لهذا المطلب بشكل كامل، لكنها تكتفي بعدم التطبيع المعلن مع إسرائيل.

ربما يناصر المواطنون قضية فلسطين لأنهم حديثو التحرر، فلا تزال كلمات الفصل العنصري والاحتلال واضحة المعنى والأثر، كما أنهم بحاجة للاقتناع بأن القانون الدولي قادر على حمايتهم إذا لجأوا إليه، وضعفه أمام إسرائيل يخيفهم بأنه قانون عاجز في بعض الأحيان، ويخشون أن يكونوا هم الضحية التالية التي يعجز القانون الدولي عن حمايتها.

ربما لأن القانون الدولي هو السبب في مأساة البلدين، ففي عام 1948 وطأة قدم جان ريبيك جنوب أفريقيا كأول مستوطن، جان قال إنه وجد البلد خالية من السكان، قالها ليبرر الاحتلال الهولندي لها، وسط تنافس دول أوروبا على امتلاك أكبر قدر من المستعمرات الخارجية، وهكذا قال الاحتلال الإسرائيلي إن فلسطين أرض بلا شعب، وقالت الكنيسة الهولندية، إن البيض المستعمرين الذين جاءوا لجنوب أفريقيا هم صفوة شعوب الأرض، وهكذا قال اليهود إنهم شعب الله المختار، وادعت دولة البيض في جنوب أفريقيا أنها الديمقراطية الوحيدة في أفريقيا، وكذلك تفعل إسرائيل.

وكما تشابهت ظروف الاحتلال بين البلدين تشابهت أحوال المقاومة كذلك. بدأت جنوب أفريقيا كفاحها بالحوار مع الحكومات، لكن حين وجدت الطريق مسدودًا لجأت للإضراب والعصيان المدني، ثم في بداية الستينيات لم تجد أمامها سوى الكفاح المسلح. وهو ما تقوم به المقاومة الفلسطينية حتى الآن، عمليات فدائية وانتفاضات ومواجهات عسكرية ومفاوضات.

خصوصية القضية الفلسطينية

لكن لا يفوتنا في ذلك السياق التأكيد على خصوصية القضية الفلسطينة، وإسرائيل أيضًا. المجتمع الدولي ضاق في مرحلة ما بدولة البيض في جنوب أفريقيا، ونزع الشرعية عنها بعد أن عزلها وفرض العديد من العقوبات عليها. لكن في حالة إسرائيل فإنها دولة ذات أهمية فائقة للغرب، لهذا من غير الممكن المراهنة على احتمالية نزع الشرعية الدولية عنها أو عزلها وفرض عقوبات عليها، ففي حالة إسرائيل توجد الولايات المتحدة المنحازة بالكامل لإسرائيل والداعمة لها بشكل مطلق، لكن الولايات المتحدة لم تفعل المثل في حالة دولة الفصل العنصري في جنوب أفريقيا.

كما أن الحزب الحاكم في جنوب أفريقيا مارس سياسة علنية أعلن فيها الفصل العنصري، وبنى مؤسساته على هذا الأساس، بينما إسرائيل تقدم نفسها للعالم كضحية للنازية والاضطهاد، وكواحة للديمقراطية. وتخفي ممارستها للفصل العنصري قدر الإمكان، رغم أن الأمر لم يعد سرًا، لكنها تبادر إلى تبريره وتقديم رواية مضادة للإعلام الغربي.

ومن أوجه الاختلاف بين فلسطين وجنوب أفريقيا، هى حالة الانقسام التي تعيشها الفصائل الفلسطينية أحيانًا، ما يجعل تحقيق الوحدة الفلسطينية الشاملة أمرًا صعبًا، قد يحدث لكنه قد يتفتت لاحقًا. رغم أن فلسطين دولة متجانسة إثنيًا ودينيًا وعرقيًا، على النقيض من جنوب أفريقيا ذات العرقيات والقبائل المختلفة، لكنها رغم الصعوبة الشديدة استطاعت توحيد صفوفها مبكرًا وبقوة حتى نهاية الأمر وحصولها على استقلالها.

كذلك فرغم أن كلمة الفصل العنصري هى أكثر ما يتحدث عنه الجنوب أفريقيون، فإنه لا يجب التناسي أن إسرائيل هى دولة احتلال عسكري تهدف لتغيير واقع ديموجرافي وجغرافي كامل لدولة بكاملها. لكن وصف إسرائيل بدولة فصل عنصري ليس إلا توصيفًا للجرائم التي يرتكبها الاحتلال الإسرائيلي في فلسطين.

يتشابه حال الدولتين

جون دوجارد، بروفيسور جنوب أفريقي والمقرر السابق لمجلس الأمم المتحدة لحقوق الإنسان، زار فلسطين المحتلة أكثر من مرة. يقول دوجارد إنه حين دخل فلسطين لأول مرة صُعق من التشابه بين نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا وممارسات سلطة الاحتلال في إسرائيل.

أشار الرجل إلى حواجز التفتيش والحصار، والجدار العازل، والمستعمرات، والطرق الخاصة بالإسرائيليين فقط. وبطاقات تعريف الهوية، والتصاريح ذات التصنيفات المختلفة. وأشار لقوانين امتلاك الأراضي، وقانون الخدمة العسكرية، وقانون الدخول لإسرائيل. فقد أقام الاحتلال الإسرائيلي نظامًا للفصل العنصري وخلق نظامًا قضائيًا يعمل وفق تلك التفرقة العنصرية.

وهو ما قام به الاحتلال الهولندي لتسهيل حصوله على الأراضي في جنوب أفريقيا. مثل تشريع قانون العبور الذي سيطر على عبور السكان الأصليين، وحصرهم في 13% فقط من مساحة جنوب أفريقيا. ثم عمد الاحتلال إلى تقسيم تلك النسبة البسيطة على أساس العرق والقبائل. مثلما فعلت إسرائيل حين وضعت منطقة داخل الخط الأخضر، حيث يُمنع على سكان الضفة الغربية والقطاع دخوله إلا بتصاريح خاصة. ومنطقة القدس، التي يصبح من المستحيل دخولها أحيانًا.

كما أن قانون الجنسية الذي أصدرته إسرائيل يتعامل مع الفلسطينين كمواطنين من الدرجة الثانية. كما كان وضع السود في جنوب أفريقيا. كما تنظر إسرائيل للعرب كخطر داهم تريد إلقاءه خارج فلسطين بأسرع وقت وبأي صورة، كذلك كان الاستعمار الهولندي والبريطاني ينظر للسود في جنوب أفريقيا. وحتى منحوا حق التصويت في البرلمان الثلاثي في جنوب أفريقيا، كان حقًا صوريًا لا سيادة حقيقية فيه.

بسبب ذلك التماهي الشديد تدعم جنوب أفريقيا قضية فلسطين في مختلف المناحي. فمثلًا قامت بسحب الدعم عن ملكة جمال البلاد في نوفمبر/ تشرين الثاني 2021 بسبب إصرار القائمين على المسابقة على إقامتها في إسرائيل. وأعلنت وزارة الثقافة والفنون الجنوب أفريقية بأن الفظائع الإسرائيلية في حق الفلسطينين موثقة جيدًا، ولا يمكن للحكومة أن تربط باسمها بمسابقة تجري في إسرائيل.

كما قامت جنوب أفريقيا بسحب سفيرها من إسرائيل عام 2019، وخفضت تمثيلها الدبلوماسي في تل أبيب. أتى ذلك عقب العدون الإسرائيلي على المتظاهرين في غزة عام 2018. وتظاهر المئات في جنوب أفريقيا في مايو/ أيار 2021 بسبب مقتل 28 فلسطينيًا في ضربات إسرائيلية على قطاع غزة، كما أكدت وزيرة خارجية جنوب أفريقيا، ناليدي باندور، دعم بلادها الكامل لفلسطين حتى الحصول التام على الحرية، وأكدت أن بلادها لن تكون مع أي مبادرة تضع فلسطين خارج الحسابات الدولية، أو ترفضها فلسطين.