هل تتذكر طفولتك؟ كنت تتمنى أن تكبر، صحيح؟

الآن وقد كبرت، تلتفت للوراء، حيث كنت صبياً، وتشعر أن الزمن الذي لم يكن يمر حينها، يهرع الآن وكأنه ممسوس، تلمس ذلك، لكنك لا تفهم كيف، ساعات اليوم كما هي، تنظر إلى أطفال هذه الأيام، وتتساءل: هل يشاركونك شعورك بتسارع الوقت؟ أم أن الزمن عندهم بطيء مثلما كان في طفولتك؟

ماذا يحدث؟ ولماذا يبدو الوقت سريعاً الآن؟

قبل أن أجيبك، عليك أن تعرف أن إدراكنا للزمن مرن جداً، مثل آلة الأكورديون، نمده، ونضغطه، ونوسّطه. وفقاً لعالم النفس مارك ويتمان، فإن قدرتنا على قياس الوقت بدقة تنحصر في نطاقات زمنية قصيرة جداً، تتمثل في خمس ثوانٍ، بعد ذلك يفقد الدماغ قدرته على تتبع الوقت.

بشكل أساسي، يتوقف تقديرنا للزمن على طبيعة الموقف، ومشاعرنا حينها، فضلاً عن خصائصنا الشخصية.

لكن، لماذا يتشوّه الزمن في إدراكنا؟

لا توجد إجابة قاطعة، فكيفية تعاطينا مع الوقت لا تزال غامضة، إذ يُعتقَد أنه لا توجد ساعة مركزية في الدماغ مسئولة عن معالجته، وإنما عدة مناطق تنشط حسب طبيعة الموقف. ومع ذلك، هناك شيء جلي في نظامنا لإدراك الوقت، وهو أنه مُصمم عكس رغباتنا، ففي لحظات الملل والخطر يبدو كما لو أنه توقف، بينما تبدو الأوقات السعيدة وكأنها «تطير».

الآن، وبعد أن عرفت أن إدراكنا للوقت مرن، يبقى واحد من أكبر الألغاز في تجربة الزمن، حسب عالمة النفس «كلوديا هاموند»، وهو إحساسنا بتسارع الوقت مع تقدمنا في العمر، فهل فعلاً يتسارع الوقت كلما كبرنا؟ أم أن أدمغتنا تخدعنا وتصور لنا الوقت في الماضي على أنه أبطأ؟

يرى البعض أن المسألة تتعلق بنظرتنا للماضي من منظور استرجاعي، بمعنى أن الزمن لم يكن أبطأ حينها، لكننا نميل إلى الاعتقاد بأنه كان كذلك عندما نستدعيه في ذاكرتنا، يوضح هذا ظاهرة «مفارقة العطلة»، وهي إحساسنا أن الوقت ينقضي سريعاً أثناء العطلات، لكن عندما نتذكر هذه العطلات بعد انتهائها، نشعر أنها استغرقت مدة كبيرة بخلاف شعورنا وقتها.

في المقابل، يرى فريق آخر أننا لا نتوهّم، وأن الوقت يمر علينا أسرع فعلاً كلما كبرنا. في دراسة أجراها عالم النفس «بيتر مانجان»، طُلب من مجموعة من الشباب وكبار السن، تقدير مدة (3) دقائق. استطاع الشباب تقدير المدة بشكل مثالي تقريباً، بمتوسط (3) دقائق و(3) ثوان، بينما انقضت (3) دقائق و(40) ثانية، قبل أن يعتقد كبار السن أن (3) دقائق مرت.

وبصرف النظر عمّا إذا كنا نتوهّم الأمر أم أن الوقت يمر فعلياً أسرع على كبار السن، فإن هناك عدة تفسيرات تشرح حدوث الظاهرة، بعضها يعتمد على كون الظاهرة متوهمة، وبعضها يرى المسألة من منظور بيولوجي، حيث تؤثر التغيرات التي تطرأ على أجسادنا كلما كبرنا في إدراكنا للزمن.

التناسب

قدّم الفيلسوف الفرنسي «بول جانيت» لأول مرة تفسيراً لهذا الشعور عام 1877، فيما يُعرف بقانون «التناسب». جانيت رأى أننا نشعر بطول الوقت بما يمثله من إجمالي حياتنا، أي إجمالي السنين التي عشناها. بالنسبة لطفل عنده 10 سنين، فإن سنة واحدة تمثل 10% من حياته، بينما بالنسبة لشخص 20 سنة، فهي تمثل 5% من حياته، وبالتالي كلما كبرنا تضاءل إحساسنا بقيمة الوقت، لأنه يمثل جزءاً بسيطاً بالقياس إلى مجموع حياتنا.

الأكثر غرابة، هوّن جانيت من عدد السنين التي نعيشها، فلو عمرك 100 سنة، فإن إحساسك بطول الخمسين سنة ما بين سن الخمسين والمائة، هو نفس إحساسك بطول مدة الخمس سنوات ما بين سن الخامسة والعاشرة.

هذا التفسير واجه انتقادات بعض العلماء، ذلك أن جانيت تعامل مع المسألة من منظور رياضي بحت. ووفقاً، لعالمة النفس «كلوديا هاموند»، فإن هذا التفسير ربما كان منطقياً لو أن كل الأيام متشابهة، لكن مع هذا التباين الشديد بين الأيام فيما نختبره من تجارب وعواطف، لا يصبح هذا التفسير مقنعاً، فليس معقولاً أن يوماً مميزاً في حياتك يتلاشى، لمجرد أنك في الأربعين من عمرك، وأنه بالقياس إلى إجمالي حياتك لا يعني شيئاً.

الاعتياد

في ستينيات القرن الماضي، عالم النفس «روبرت أورنشتاين»، فتح الباب أمام فهم جديد لهذه الظاهرة. أورنشتاين ربط بين إحساسنا بمرور الوقت وقدر وتعقيد المعلومات التي تستقبلها أدمغتنا، فكلما زادت المعلومات مر الوقت أبطأ.

في سلسلة من التجارب، شغل أورنشتاين لمجموعة متطوعين شرائط تحوي أصواتاً مختلفة، وطلب منهم تقدير المدة التي استمعوا فيها لكل شريط، ووجد أنه كلما كانت الأصوات أكثر، قدّر المتطوعون الفترة الزمنية على أنها أطول. نفس الشيء بالنسبة لتعقيد المعلومات، فعندما سألهم فحص بعض الرسومات، وجد أنه كلما كانت الرسومات أعقد، قدّر المشاركون الفترة الزمنية التي قضوها في فحصها على أنها أطول.

لذا، ليس غريباً أن الطفولة هي أكثر مرحلة في حياتنا نشعر فيها ببطء الوقت، فمن ناحية يكون العالم وقتها مكاناً جديداً تماماً، أكثر جمالاً وإثارة، ومن ناحية أخرى نكون صفحة بيضاء، نتطلع لمعرفة كل شيء عنه، فنهتم بأدق وأبسط التفاصيل.

لكن مع تقدمنا في السن، يفقد العالم حداثته ويتحول لمكان كئيب ومألوف، لأننا نكون على دراية بجميع تفاصيله، ويصبح تركيزنا منصباً على الأشياءالمهمة فحسب، وبالتالي فكمية التفاصيل التي نستقبلها أقل بكثير، ما يجعل الوقت يمر أسرع.

على أن المسألة ليست فقط أن الأطفال يهتمون بكل التفاصيل حولهم، بل كون هذه المعلومات جديدة يجعل إحساس الطفل بالوقت يطول. حسب عالم الأعصاب «ديفيد إيجلمان»، فإنه كلما كانت التجربة جديدة، زاد نشاط أدمغتنا، لتسجيل تفاصيل التجربة، لكن كلما تقدمنا في العمر، تعاملنا مع معلومات عالجتها أدمغتنا مسبقاً،وبالتالي فهي تختصر الطريق في المرات التالية، ولا تتطلب الانتباه والنشاط التي احتاجتهما أول مرة، ما يمنحنا الإحساس بأن الوقت يتسارع مع تقدمنا في العمر.

يوضح ذلك ظاهرة «تأثير الكرة الغريبة»، التي تحدث عندما يقطع حدث جديد مجموعة من الأحداث المتشابهة، فنشعر أنه استغرق وقتاً أطول. ففي تجربة أجريت عام 2004، شاهد المشاركون صورة لحذاء تظهر وتختفي على شاشة كمبيوتر لعدة مرات، بينما ظهرت بينهم صورة زهرة مرة واحدة فقط، وبنفس مدة ظهور صورة الحذاء، ورغم ذلك اعتقد المشاركون أن صورة الزهرة استغرقت وقتاً أطول من صورة الحذاء.

الذكريات الصادمة

ربما تتساءل إذا كنا نختبر كل هذه التجارب في طفولتنا، فلماذا يبدو الوقت في مرحلة الشباب أبطأ من الشيخوخة؟

في الحقيقة، نحن لا نستنفد كل تجاربنا في مرحلة الطفولة، وفقاً لدراسة أجريت عام 2004، فإن (6) من أصل أهم (10) أحداث في تاريخ الشخص يقعون في السن بين 15 و30 عاماً.

تُعرَف هذه الذكريات باسم «الذكريات الصادمة». تقول عالمة النفس «كلوديا هاموند» في كتابها «طي الزمان»، إن مفتاح هذه الذكريات يكمن في أصالتها وحداثتها؛ فما يجعلنا نتذكر شبابنا هو كونه زمن الحدث الأول لكل هذه الذكريات المهمة: أول سفر دون الوالدين، وأول مبيت بعيد عن الأهل، أول سيجارة تدخنها، وبالتأكيد القبلة الأولى.

قوة هذا النوع من الذكريات لا تكمن فقط في أصالتها، بل أيضاً في عاطفية هذه الذكريات، وأنها ذكريات شخصية. على أن الشيء الأهم في هذه الذكريات حسب «كلوديا هاموند» هو أنها ترتبط بهويتنا، لأنها تحصل في السنين التكوينية، حيث نبني هذه الهوية، ونُحدِّد مكاننا في العالم؛ تعليم، عمل، زواج.

ومن هنا نجد أن هذه التجارب تعمل على جعلنا نشعر أن الوقت أبطأ في الشباب عن الشيخوخة، لأنها تبقى عالقة في ذاكرتنا، لكن مع نفاد هذه التجارب، وانخراطنا في الروتين، نشعر أن الوقت يمر أسرع. ووفقاً لـ«ستيف تايلور»، مُحاضِر علم النفس في جامعة «ليدز بيكيت»، فإننا نبدأ في إدراك هذا التسارع في أواخر العشرينيات، عندما يكون لدينا حياة مستقرة، وندور في فلك روتين ثابت، حيث تغيب الأحداث المميزة، وتتشابه الأيام، وبالتالي تسقط تلك الفترة من ذاكرتنا، لأنه لا يوجد فيها ما نتذكره، فنشعر أنها انقضت بسرعة.

ولعل هذا يفسر ظاهرتي: «التليسكوب الأمامي»، التي نشعر فيها أن أحداثاً معينة حصلت من فترة طويلة، مثل وفاة شخص عزيز، وكأنها حصلت بالأمس، و«التليسكوب الخلفي»، حيث تبدو بعض الأحداث بعيدة، رغم أنها حصلت من فترة قريبة، ويتوقف ذلك بالأساس على مقدار الذكريات التي تفصل بيننا وبين الحدث، فكلما كثرت وتنوعت، شعرنا أنه بعيد، وكلما قلت وتشابهت بدا قريباً، لأن تلك الذكريات تسقط من أذهاننا، ولا يبقى غير ذلك الحدث، فيبدو قريباً، لأن شيئاً لا يفصلنا عنه.

لذا، عندما ننظر إلى الخلف، تبدو الذكريات الصادمة كعلامات إرشادية، نستعيد بها مرحلة الشباب، وبما أن مثل هذه العلامات تغيب عن فترة الشيخوخة، نشعر وكأننا لم نمر بها.

التمثيل الغذائي

من ناحية أخرى، قُدمت بعض التفسيرات البيولوجية لحل هذا اللغز، أحد هذه التفسيرات ربط إحساسنا بتسارع الوقت مع تقدمنا في العمر بتباطؤ عملية التمثيل الغذائي تدريجياً بمرور السنين، فنظراً لأن الأطفال يتنفسون بسرعة أكبر، وتنبض قلوبهم أسرع، فإن ساعات أجسامهم تُغطِّي وقتاً أطول في غضون 24 ساعة مقارنة بالشباب وكبار السن، التي تكون عملية التمثيل الغذائي لديهم أبطأ. ببساطة، نشاط الأطفال زائد على الوقت الطبيعي، بينما نجد نشاط الكبار مُتخلفاً، ما يجعل الأطفال كساعة تم ضبطها للعمل أسرع من العادي، من وجهة نظر هذه الساعة، يحتوي اليوم على وقت أكثر. في المقابل، يبدو كبار السن كساعات أبطأ، وهو ما يجعل الوقت في الحياة العادية يمر عليهم أسرع.

الحرارة

ليس التمثيل الغذائي، هو التفسير البيولوجي الوحيد، فقبل هذا التفسير بفترة طويلة، ربط عالم النفس «هدسون هوغلاند» بين درجة حرارة الجسم وإحساسنا بتسارع الوقت مع تقدمنا في العمر.

لاحظ «هدسون» أن زوجته، المصابة بالحمى، تشكو من غيابه عنها لفترات زمنية طويلة حتى لو تأخر عليها للحظات، دفعته ملاحظته هذه لاختبار إدراكها للوقت عند درجات حرارة مختلفة، ليكتشف أنه كلما ارتفعت حرارتها، تباطأ إحساسها بالوقت.

في تجربة نشرتها مجلة «Nature» عام 2019، وضع الباحثون المشاركين في التجربة في ماء دافئ، وبدأوا في تغيير درجات الحرارة، وكلما زادت درجة الحرارة، أعتقد المشاركون أن الوقت يمر أبطأ.

اللافت هنا أن درجة حرارة أجسام الأطفال تكون أعلى من البالغين، إذ تنخفض حرارة أجسامنا تدريجياً مع تقدم العمر، ولهذا نشعر بأن الوقت يمر أسرع كلما كبرنا، وفقاً لهذا التفسير.

معالجة أسرع

في مارس/آذار 2019، نشر «أدريان بيچان»، أستاذ الهندسة الميكانيكية في جامعة ديوك، دراسة في مجلة «European Review»، قدّم فيها تفسيراً جديداً لإحساسنا بتسارع الوقت مع تقدم العمر. يعتقد «بيچان» أننا نشعر ببطء الوقت في فترة الطفولة والشباب مقارنة بالشيخوخة، ليس لأن تجاربنا كانت أعمق، ولكن لأن معالجتها كانت أسرع.

مع تقدمنا في السن، تتباطأ تدريجياً السرعة التي تعالج بها أدمغتنا المعلومات الجديدة، فكلما كبرنا، ازدادت خلايا أدمغتنا العصبية حجماً وتعقيداً. وبالتالي، فالمعلومات الجديدة، تواجه مسافة أطول حتى تصل مقارنة بالمسافة عندما كنا أصغر، كما يسهم تدهور أعصابنا بمرور السنين، في إبطاء تدفق الإشارات الكهربية في أدمغتنا، لذلك كلما كبرنا، احتجنا وقتاً أكبر لتحصيل المعلومات، عما نحتاجه ونحن أصغر.

يدلل بيچان على ذلك بسرعة حركة أعين الأطفال أثناء معالجة المعلومات البصرية، إذ يعتقد أن مرد تحرك أعينهم بسرعة، هو أنهم يعالجون المعلومات أسرع من البالغين، ما يعني قدراً أكبر من المعلومات المحصلة.

بحسب بيچان، يُسهِم انخفاض المعلومات البصرية المحصلة مع تقدمنا في السن في زيادة إحساسنا بتسارع الوقت. ببساطة، يتعلق الأمر بالإنجاز، إنه شيء نختبره في حياتنا اليومية، فكلما أنجزنا في مذاكرتنا أو عملنا، أحسسنا بالوقت، والعكس فنحن لا نشعر بالوقت عندما يتضاءل إنجازنا خلاله.

وبصرف النظر عن أسباب شعورنا بتسارع الوقت مع تقدمنا في السن، يبدو أن الأمر حتمي، ومع ذلك لا أريدك أن تجزع، لأننا غالباً نستعجل مرور الأيام، نريد أن نكبر، ننتظر نهاية ساعات العمل، نتتوّق إلى الإجازة، مباراة فريقنا القادمة، نهاية الشهر من أجل الراتب، نحن نفعل ذلك، جميعنا، ألا تفعل؟

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.