نستطيع القول بأن الألغاز فن عالمي.
«أرتشلر تايلور» – الباحث في الفلكلور

أقدم لغز في التاريخ سُجل في مخطوطة تنتمي إلى الحضارة البابلية، وقد كُتِب دون أجوبة بطريقة شعرية سهلة وبجمل قصيرة.يقول أرسطو: «الألغاز الجيدة تمنحنا استعارات جيدة، ولكي تصنع استعارة جيدة عليك أن تصنع لغزًا جيدًا». والفوازير تعتبر أقدم أنواع الأدب المتوارثة من الحضارات القديمة والثقافات المختلفة، كالصينية والفارسية والهندية والعربية، فلقد اشتهرت معظم المجتمعات القديمة والحديثة فيما يتعلق بتواصل أفرادها بالالتفاف حول شخص ما يقوم بسرد حكايات وقصص، وأحيانًا كانت تلك الحكايات تحتوي ألغازًا من باب التشويق.يحكي الرحالة «إدوارد لين» الذي زار مصر في القرن التاسع عشر عن ارتياد الآلاف من المصريين المقاهي بعد الصلاة للاستماع إلى رواة السير الشعبية وشعراء الربابة، وأهل الريف كانوا يتحلقون في رمضان حول الرواة والحكّائين ليسردوا قصصهم وبعضًا من الفوازير البسيطة الشعبية. طور المصريون ذلك الفن القديم مع تطور وسائل التواصل، وبدأوا في التفنن بتقديمه بأشكال مختلفة.


«آمال فهمي» صوت الفوازير منذ أكثر من خمسين عامًا

في محطة بنزين استمعت «آمال فهمي» – المذيعة في إذاعة البرنامج العام – إلى صوت يتردد كثيرًا في المذياع محاولةً تذكر اسم صاحبه، فجاءتها الفكرة ها هنا بتقديم برنامج مسابقات، حيث يتحدث الفنان في موضوع بعيد تمامًا عن مهنته وعلى المستمعين معرفته من صوته. استضافت «أم كلثوم» و«فاتن حمامة» و«عماد حمدي» و«سعد عبد الوهاب» وغيرهم الكثير، والعجيب أن الجميع أخطأ في معرفة صوت «أم كلثوم»، وبتلك الفكرة انطلقت أول فوازير رمضانية عام 1956 وكانت الجائزة الأولى 5 جنيهات، والثانية 4 جنيهات، والثالثة 3 جنيه.

بعد أذان المغرب من كل عام تستمع إلى صوت «جلال معوض» المميز وهو يقول «هنا القاهرة» ثم تبدأ «آمال» بلدغتها المميزة في تقديم الفزورة التي كتبها لها الشاعر الكبير «بيرم التونسي»، ثم خلفه «صلاح جاهين»، ثم «بخيت بيومي» حتى «بهاء جاهين» الذي رافقها حتى آخر حلقة عام 2013، حيث وصلت الجوائز إلى 15 ألف جنيه تحت رعاية صندوق تنمية المشروعات التعليمية التابع لوزارة التربية والتعليم.

أما أول التجارب التلفزيونية فكانت حلقات «على رأي المثل» التي عرضت على شاشة التليفزيون المصري عام 1961، والتي كتبها «بيرم التونسي» ونصح بالرجوع في حلها إلى كتاب الأمثال لـ «محمود تيمور».


الفوازير ما بين الدراما والاستعراض

«نلاحظ أن فوازير ثلاثي أضواء المسرح كانت ساذجة جدًا، ومن الواضح أن معظم الحوار كان يُرتجل ساعة التصوير، فقيرة الإمكانيات لحد لا يصدق، وكانت جوائزها من نوعية ساعة اليد والدراجة،وحلولها كانت صعبة جدًا (أذكر فزورة حول هروب «رذرفورد» للولايات المتحدة وفزورة حول لقاء «هانيبال» بـ«سيكبيو» الأفريقي!)، مع الوقت صارت الفزورة أكثر شياكة وحلولها في غاية الهيافة على غرار ما هو الشيء الذي يحرق ونطبخ عليه طعامنا».

هذا ما قاله «أحمد خالد توفيق» في أحد مقالاته عن ذكريات رمضان عن فوازير «ثلاثي أضواء المسرح» التي أنتجت بين عامي 1967 و1970 من إخراج «أحمد سالم» وأداء الثلاثي المشهور «سمير غانم»، «جورج سيدهم»، «الضيف أحمد»، وقد كانت هذه هي النسخة الأولى من الفوازير التي تربط ما بين الدراما والاستعراض.


«نيللي» ملكة الفوازير

لسنوات طويلة اقترنت فوازير رمضان بـ«نيللي» التي قامت بتقديمها خلال أكثر من 13 عامًا، بدأت رحلتها عام 1975 مع المخرج «فهمي عبد الحميد» ومصمم الاستعراضات «حسن عفيفي» (صاحب الذراع المكسور في فيلم «غرام في الكرنك») في برنامج بعنوان «صورة وفزورة»، واستمر هذا الثلاثي في العمل معًا في عام 1976 في«صورة وفزورتين»، ثم في عام 1977 «صورة و3 فوازير»، وعام 1978 «صورة و30 فزورة» والتي كانت تعتمد فكرتها على تنكر «نيللي» بشخصيتين: شخصية ثابتة طوال ثلاثين حلقة وهي شخصية صحفية تقوم باستضافة المشاهير، والشخصية الثانية هي الضيف المشهور، والمطلوب من المشاهد معرفة شخصية الضيف وإرسال الحل.

في عام 1979 قدمت نيللي «أنا وإنت فزورة»، ومن بداية الثمانينيات بدأت رحلتها مع «صلاح جاهين»، فكتب لها «عروستي» التي أدتها نيللي بمنتهى الشقاوة والحيوية، وامتازت بأشعار «جاهين» وأفكاره لأشياء سهلة وبسيطة مرتبطة بالحياة اليومية للمواطن العادي.

والعام التالي على التوالي كتب صلاح جاهين فوازير «الخاطبة»، والذي تتمايل فيه نيللي بمنتهى الدلال والرقة والشقاوة هامسة «يوه.. الخاطبة»، حيث تعتمد فكرتها على أن يكتشف المشاهد مهنة الثلاثين عريسًا على مدار الشهر.

انقطعت نيللي عن تقديم الفوازير حتى عام 1990 عندما قدمت «عالم ورق»، الذي ابتدأ التتر الخاص به بنعي «فهمي عبد الحميد»، وأخرجه مساعده «جمال عبد الحميد». وفي عام 1991 قدمت «عجايب صندوق الدنيا» والتي تراوحت جوائزها ما بين تليفزيون ملوّن، وديب فريزر، وجنيهات ذهبية، ورحلة عمرة من محلات العطور الشهيرة «قزاز»، وعلب شيكولاتة ذات إنتاج محلي من ماركات «تشيرسي»، و«ماكسي»،وغيرها.

استمرت نيللي وقدمت فوزاير «أم العريف» التي تقوم فيها بدور امرأة تدّعي مهارتها في أداء جميع المهن والأعمال التي دون اختصاصها، فيؤول الأمر دائما إلى تخريبها لكل شيء، ولكي تنقذ نفسها تنادي: «خلاويص.. أنا كان قصدي أخدم».

وفي عام 1995 قدمت فوازير «الدنيا لعبة» تناولت فيها الألعاب الرياضية المختلفة. ثم ودّعت نيللي الفوازير وودعتنا عام 1996 عندما قدمت آخر أعمالها، فوازيرـ «زي النهاردة» لتطوي معها مرحلة طويلة، متّعتنا فيها بشقاوتها ووهجها واستعراضاتها المتميزة وطريقتها الفريدة في تأدية الأغاني.


شيرهان: الفراشة التي لم تمهلنا الكثير

تلك الشابة اليافعة التي أزهر ربيعها مبكرًا، تعلمت الرقص التعبيري وهي صغيرة في إحدى مدارس باريس، لتأتي وتتحفنا بتراث لا يُستهان به من المسلسلات والفوازير والأفلام الاستعراضية والغنائية المبهرة.

في عام 1986 قرر المخرج «فهمي عبد الحميد»، استخدام تيمة مسلسل «ألف ليلة وليلة» الذي مثلت فيه «شيرهان» لعدة سنوات، في تجربة جديدة من الفوازير هي «أمثلة شعبية» التي قدمتها «شيرهان» بأداء مميز من الاستعراضات التي صممها المميز أيضًا «حسن عفيفي». وربما كان من المثير معرفة أن الفنان «عمرو دياب» قد اشترك في إحدى حلقات تلك الفوازير.

كان من الطبيعي أن تتهم شيرهان بتقليد نيللي ولكنها استطاعت أن تقدم نسختها المميزة من الفوازير، وتفرض أسلوبًا خاصًا بها، فقدمت في عام 1987 فوازير «حول العالم»، والتي كانت تصف في كل حلقة بلدًا مختلفة بتصاميم ديكور مختلفة وأزياء مختلفة ولهجة مختلفة، وعلى المشاهد تخمين اسم البلد، وكان ما يميز تلك الفوازير أن المشاهدين كانوا يتعرفون على بلدان جديدة لم يعلموا بوجودها من الأصل.

وفي عام 1993 خاض الشاعر الكبير «سيد حجاب» تجربته الأولى في كتابة الفوازير مع شيرهان وقدما سويًا «حاجات ومحتاجات» والتي انتقدها البعض بسبب صعوبتها، وكان رد سيد حجاب: «الفوازير ليست معيوبة وليست صعبة، لكنها تحتاج لمشاهد يقظ ومثقف». وهنا انتهت سريعًا تجربة تلك الفراشة مع الفوازير، ولكنها تركت ذاكرة وإرثا لا يستهان بجماله وإتقانه وتميزه.


آن للكوميديا أن تعتلي المنصة

في عام 1982 ابتكر «فهمي عبد الحميد» شخصية «فطوطة»، الرجل الصغير التي يرتدي ملابس كبيرة ويتحدث بطريقة مضحكة، واستمر في تقديمها لعامين متتاليين مع الفنان الكوميدي «سمير غانم». وفي عام 1988 قدم «فهمي» فوازير «المناسبات»، من بطولة «يحيى الفخراني» و«هالة فؤاد»، و«صابرين»، دراما كوميدية استعراضية تتناول في كل حلقة مناسبة كالعيد ورأس السنة، أو عادة من العادات والتقاليد المصرية.


محاولات فاشلة

تتابعت عدة محاولات لم تُكلل بالنجاح، حيث اعتمدت على تقليد ونسخ ما قامتا به «نيللي» و«شيرهان». ففي عام 1989 قدم «مدحت صالح» و«شرين رضا» فوازير «الفنون»، التي تناولت في كل حلقة فنًا مختلفًا كالرسم والنحت والغناء وغيره. وفي 1994 أدى الممثل «عبد العزيز مخيون» دور «قيس» في فوازير «قيس وليلى في المدن العربية»، ووكانت من بطولة «محمد الحلو» و«شرين وجدي»، في عدة حلقات غنائية بالعربية الفصحي كانت صعبة على المشاهد العادي مما جعلها أقرب إلى الملحمة.

كما شاركت «جيهان نصر» في عالم الفوازير، وأدت بمنتهى الدلال والجمال والأناقة «الحلو ميكملش» والتي كانت قريبة نوعا ما إلى فوازير «الخاطبة». وفي عام 1997 قدمت الفنانة وراقصة الباليه المعتزلة «نادين» فوازير «منستغناش»، وفي 1998 شاركها النجم الكوميدي «وائل نور» في فوازير «جيران الهنا».


دماء جديدة

في أواخر التسعينات اجتمع «محمد هنيدي» و«علاء ولي الدين» و«أشرف عبد الباقي» في فوازير «أبيض وأسود»، والتي قاموا فيها بدور ثلاثة من الأصدقاء يتمنون أن يحالفهم الحظ مع ممثلة مشهورة فتظهر لهم الراقصة «دينا» لتحقق لهم آمالهم. وشاركهم البطولة نجوم آخرين منهم «ماجد الكدواني» و«غادة عادل» في جرعة شديدة التركيز من الكوميديا والأفكار الجديدة.

كما ساهمت أيضا البالرينا الأولى في مصر «نيللي كريم» – وكانت لا تزال وجها جديدا في التليفزيون والسينما – في تقديم إحدى نسخ الفوازير بالاشتراك مع «صلاح عبد الله» في فوازير «حلم ولا علم» لمدة خمسة عشر حلقة عُرِضوا في النصف الأول من رمضان، وفي نفس العام وخلال خمسة عشر حلقة آخرين عُرضوا في النصف الثاني من الشهر شارك «محمد سعد» «ياسمين عبد العزيز» و«عبد الله محمود» في تقديم فوازير «العيال اتجننت»، التي كتبها الشاعر «أيمن بهجت قمر» وشارك في اللحن والتوزيع الراحل «حسين الإمام».

ويبدو أن “مدحت صالح” لم يكتفِ بالتجربة غير الناجحة التي خاضها في فوازير «الفنون» في الثمانيات، وقرر أن يخوض تجربة أخرى مع «غادة عبد الرازق» عام 2003 في فوازير «فرح..فرح».

وشهد عام 2007 آخر التجارب التي قدمت لبرامج الفوازير والتي حاولت الاقتراب من نجاح نسختي «نيللي»، و«شيرهان»، وهي النسخة التي أنتجتها وقدمتها الإعلامية الكويتية «حليمة بولند». بعد ذلك ترددت الكثير من الأخبار عن نسخ جديدة من برامج الفوازير لكن أيا منها لم يتم تنفيذه.

وهنا يثور السؤال التقليدي، لماذا لم ترقَ أي من هذه التجارب إلى تجربتي «نيللي»، و«شيرهان» اللتين لازمتا ذاكرة الجمهور واقترنت أسماء بطلتيهما بالفوازير دون غيرهما؟

ربما لأن تلك الهامات التي كانت وراء التجارب الأولى لن تتكرر مرة أخرى، فعندما يجتمع شعراء كـبيرم التونسي وصلاح جاهين وسيد حجاب وبهاء جاهين مع مصمم استعراضات في موهبة حسن عفيفي، وملحنين كـ «حلمي بكر» و«عمار الشريعي» و«عمر خيرت»، عندما يلتقي كل هؤلاء مع فنانات استعراضيات بموهبة نيللي وشيرهان، فمن الصعب حقا صنع شيئا يحاكي هاتين التجربتين الفريدتين.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.