أشلاء ودماء، جثث متناثرة للضحايا وصرخات ملتاعة تنطلق من حناجر الأهالي، ثمة انفجار قد حدث للتو، والعجيب أن ساحة التفجير هي مسجد أو كنيسة؛ أي أقدس البقاع على وجه الأرض، يبدو ذلك مشهدًا مكررًا على امتداد الحواضر العربية. وفي حين قد يرى البعض أن عمليات كهذه -أي استهداف دور العبادة- مجرد عمليات عشوائية بلا هدف سوى نشر الذعر والخوف، فإن القراءة المتفحصة في تاريخ العمليات المماثلة وأدبيات حركات العنف تستكشف أن ثمة أهداف إستراتيجية أبعد ترتجى من وراء تلك العمليات.


هل مصر على طريق العراق وسوريا؟

تعرضت صباح الأمس الأحد كنيسة ملحقة بالكاتدرائية المصرية بحي العباسية شرق القاهرة لتفجير تسبب في قتل 23 شخصًا على الأقل وإصابة 49 آخرين معظمهم من النساء و الأطفال، وفي انتظار تكشف معطيات عن الجهة التي وراء ذلك الحدث. تضع الانطباعات الأولى للحدث تنظيم ولاية سيناء –أنصار بيت المقدس سابقًا- في دائرة الاتهام الرئيسية، حيث يعد ذلك النوع من الهجمات حكرًا تقريبًا حتى الآن على تنظيم الدولة الإسلامية الذي خلف تنظيم القاعدة في تبني هذا النمط من العمليات.

و يستدعي حادث الأمس، بغض النظر عن مسؤولية داعش عن تلك العملية تحديدًا من عدمه، إحدى أطروحات تنظيم القاعدة في هذا الإطار، وهي الأطروحة التي قدمها صاحب الاسم المستعار أبي بكر ناجي في عام 2004 بعد الغزو الأمريكي للعراق، في الكتاب الشهير المعروف بـ«إدارة التوحش» المعنون فرعيًا بـ«أخطر مرحلة ستمر بها الأمة»، التي تزامن طرحها وقتئذ وللمفارقة مع تقديم المحافظين الجدد في إدارة الرئيس الأمريكي الأسبق جورج بوش الابن، لأطروحاتهم عن الفوضى البناءة في الشرق الأوسط ومشاريع إعادة تقسيمه خلال العقد الماضي.

وسنتوقف في هذه المقال بشكل موجز للنظر في خلفيات وأبعاد أطروحة إدارة التوحش، وإمكانية انتقال سيناريوهات «إدارة التوحش» إلى مصر، التي ربما لا تظل طويلاً استثناءً في منطقتنا، التي تعيش اليوم زمن انهيار السيادات الوطنية وازدهار الميليشيات والتنظيمات المسلحة كحزب الله في لبنان وتنظيم الدولة في العراق وسوريا، والحوثيين الذي يحكمون صنعاء في اليمن.

ورغم صعوبة تحقق هكذا سيناريوهات في مصر على غرار ما جرى في العراق وسوريا في السنوات الماضية، إلا أن ذلك الاحتمال أضحى وللمفارقة يطرح نفسه كل يوم أكثر مما سبق؛ بفعل تفاقم حالة التفكك والتصدع الاجتماعي والسياسي التي شهدتها مصر بعد الـ 3 من يوليو / تموز 2013، ومؤشرات التأزم الواضحة التي ظلت تدفع تدريجيًا بعد ذلك في هذا الاتجاه كمؤشرات الوضع في سيناء وفي النوبة خلال الأعوام القليلة الماضية.


صناعة التوحش ثم إدارته: كيف يحاول الجهاديون خلق الفوضى؟

تثور بعض التساؤلات للوهلة الأولى في عقل من يقرأ كتاب «إدارة التوحش»، حين يجد أن مصطلح «التوحش» الذي يتكرر كثيرًا بين ثنايا هذا الكتاب كان من الممكن استبداله في الوقت الذي كتب فيه قبيل نهاية عام 2004 بمصطلحات تلائم ما يتحدث عنه الكتاب بشكل أدق، من قبيل إدارة «الفوضى» أو إدارة «المناطق الرخوة»، وهي العبارات الأكثر مناسبة نظريًا للسياقات التي تتخلله.

إلا أن واقع العالم العربي اليوم يؤكد في المقابل أن استخدام ذلك المصطلح كان دقيقًا بالفعل، بل ومقصودًا في حد ذاته، بل وإن إرداف العنوان أيضًا بالعبارة الشارحة «أخطر مرحلة ستمر بها الأمة» توحي اليوم للمتأمل في دلالاتها بأثر رجعي، بأن الأمر لم يكن مجرد توقع واستشراف بريء للمستقبل من البداية من أجل التعامل معه، حيث تتداعى العديد من الشواهد والبراهين منذ سنوات، أن ذلك كان أمرًا خارجًا عن حدود مجرد التنبؤ. فالتوحش الفعلي، وليس مجرد الاستفادة من الفوضى أو الاضطرابات العفوية المرشحة للحدوث بفعل ترهل بعض الأنظمة هنا أو هناك، هي حالة اعتزم تنظيم القاعدة خلقها عمدًا في حد ذاتها خلال العقد الماضي.

و قد سكت نص الكتاب عن هذه القضية، وكأن ذلك التوحش المشار إليه أمر سيحدث عفويًا من تلقاء ذاته، ولكن واقع وسلوك التنظيم الذي تُنسج حوله العديد من نظريات المؤامرة وتثار شبهات عدة حول اختراقه من قبل جهات متعددة ومتضاربة، سواء صحت تلك الشكوك المثارة أم لم تصح، يكشف بوضوح عن نية تعمد صنع هذه الحالة خلال السنوات الماضية.

حيث عمل التنظيم في العقد الأخير في كل منطقة نشط فيها خلال السنوات الأخيرة على خلخلة الوضع الأمني في البداية، عن طريق عمليات تفجير طائفية الطابع تهدف إلى إشعال صراعات دينية ومذهبية ضارية ومفاقمتها تدريجيًا؛ لكي تتحول إلى حروب أهلية وتوحش اجتماعي واسع النطاق بالمعنى الحرفي، كما جري في العراق وسوريا خلال السنوات الماضية.

ولقد نفذت القاعدة رغم ضعف تماسكها التنظيمي، والسيولة الشديدة في إدارة عملياتها بعد ضرب معاقلها الرئيسية في أفغانستان، ما خططت له بالفعل في كلا البلدين خلال العقد الأخير، ونمّت وجودها تدريجيًا فيهما من خلال الصراعات الناشئة التي ساهم التنظيم في اندلاعها أو في رفع حدة وتيرتها منذ البداية.

http://gty.im/87935899

و من يقرأ كتاب إدارة التوحش، الذي يعد الإستراتيجية الرئيسية التي اعتمدها التنظيم تقريبًا منذ منتصف العقد الماضي، سيدرك بوضوح أن القاعدة كان تنشد في هذا الإطار أن تصل، بعد مرحلة معينة من تطورها الذاتي بفعل تطور تلك الصراعات نفسها، إلى مستوى من القوة والهيمنة يسمح لها بإدارة شبه كاملة لتلك النزاعات التي قامت هي نفسها بإشعال فتيلها من قبل، وذلك بتقديم نفسها في الأخير، بعد الوصول إلى مستوى شامل من الفوضى كحل وحيد أمام الانفلات الأمني الكامل وغياب القانون التي كانت أعمالها هي السبب في خلقه منذ البداية؛ وبذلك يتم الترحيب بها حسبما يعتقد منظروها من قبل عامة الناس المتلهفين لأي قوة مهما كانت تستطيع أن تعيد إليهم الأمان الغائب.

وقد شرع تنظيم القاعدة في محاولة لخلق مساحات جديدة له بالمشرق العربي بالقيام في هذا الإطار بالعديد من العمليات بالفعل، وهي عمليات فشلت جميعًا حتى الآن في تداعياتها من إحداث الأثر المطلوب الذي كان يرجوه التنظيم، كعملية تفجير مسجد الإمام الصادق في الكويت الذي يرتاده مصلون شيعة أثناء أدائهم صلاة الجمعة في 26 يونيو /حزيران 2015، والذي أسفر عن مقتل ما لا يقل عن 27 شخصًا وجرح 227 شخصًا على الأقل، ومحاولة التفجير الفاشلة بمسجد العمران في القطيف بالمملكة العربية السعودية في الـ 4 من يوليو / تموز 2016.

وهو النمط من العمليات الذي اتبعه تنظيم الدولة الإسلامية لاحقًا في عملياته؛ كعملية تفجير مسجد يرتاده شيعة بالمملكة العربية السعودية أثناء أدائهم لصلاة الجمعة في بلدة القديح في منطقة القطيف في 22 مايو / أيار 2015، وتفجير جامع الإمام الحسين في مدينة الدمام شرق السعودية الذي وقع في 29 مايو/ أيار 2015، وذلك أثناء خطبة صلاة الجمعة أيضًا، وتفجير مسجد الرضا الذي وقع في يوم الجمعة 19 ربيع الآخر 1437 الموافق 29 يناير 2016 ضد مصلين من الشيعة في مسجد الإمام الرضا بحي محاسن بمدينة المبرز في محافظة الأحساء بالمملكة العربية السعودية.


أي دوافع قد تكون خلف العملية الأخيرة؟

رغم أن حادث التفجير الطائفي الأخير الذي شهدته مصر بالأمس قد جرى في قلب القاهرة، إلا أن التداعيات الحقيقية لهذا التفجير قد لا تظهر بعد ذلك إلا في أماكن أخرى، لاسيما صعيد مصر الذي يتركز فيه الثقل القبطي، والذي شهد بدوره الكثير من أحداث العنف الطائفي في العقود الماضية، والذي تذهب قراءات جيوسياسية يتم تداولها منذ منذ ثمانينات القرن الماضي عن أن قيام دولة قبطية على أرضه هو أمر لا يبدو مستبعدًا على المدى الطويل، وهي أطروحات تبدو دوافعها كما يظهر، ليست معرفية تستقرئ الواقع القائم، بل سياسية توصي بالدفع في هذا الاتجاه أكثر مما تتنبأ بحدوثه حقًا.

http://gty.im/107845385

ويبدو مع انتشار السلاح بكثافة في مصر خلال السنوات الأخيرة، خاصةً في الصعيد، ومع الاحتقان الطائفي والسياسي بين الأقباط وقطاعات واسعة من الإسلاميين بعد 30 يونيو / حزيران 2013، ووجود متطرفين أقباط من جهة أخرى ينزعون دومًا إلى التصعيد الطائفي بعد كل أزمة طائفية تحدث في مصر، كبعض المجموعات من أقباط المهجر بالولايات المتحدة الأمريكية، المدعومة من دوائر أقصى اليمين في الحزب الجمهوري، أن هناك بالفعل بعض السيناريوهات التي قد يُتخوف من حدوثها في الفترة المقبلة، إلا أنها سيناريوهات يحتمل بشدة أن تفشل نظرًا للطبيعة النفسية والاجتماعية المصرية، واتجاه كثير من الأقباط أنفسهم إلى الاستدعاء بالذاكرة ما جرى في حادث كنيسة القديسين، وتوجيه الاتهامات بارتكاب الحادث الأخير في الإطار نفسه.

وليس من قبيل المصادفة أن تتزامن هذه السيناريوهات المطروحة الآن مع التهديدات الوجودية التي تتعرض لها مصر في ملفات مصيرية؛ كملف تراجع حصتها المائية من النهر النيل بعد بناء سد النهضة الأثيوبي، وملف الوضع المتأزم الراهن في سيناء، أو أن تتزامن كذلك مع التهديدات والانهيارات الشاملة التي يشهدها الشرق الأوسط التي لم تنجُ منها حتى دول إقليمية كبرى ومستقرة كتركيا، التي تعرضت الصيف الماضي لمحاولة انقلابية فاشلة وطالت التفجيرات قلب مدنها الكبرى أكثر من مرة في الأشهر الماضية.

كل هذا بعد عقد كامل منذ الغزو الأمريكي للعراق، من الحديث عن أطروحات التقسيم، ونشر خرائط سياسية جديدة للشرق الأوسط في أعرق الصحف الغربية وأكثرها رصانة خلال الأعوام الماضية.