أثناء الأسابيع القليلة التي أعقبت عملية عاصفة الحزم ضد الثوار الحوثيين في اليمن، اندلعت معركة كلامية عنيفة بين دبلوماسيين وجنرالات إيرانيين، ونظرائهم السعوديين. واتهم كل طرف الآخر بإثارة الاضطرابات في الشرق الأوسط.

وأحدث هذا التوتر المستمر بين طهران والرياض تأثيرات لا يمكن إنكارها على المجتمع الإيراني، لا سيما الطبقة الوسطى، والطبقة الأكثر علمانية.

ثمة تقارير أفادت باعتداء السلطات الأمنية السعودية على شابين إيرانيين خلال رحلة حج، وهي الواقعة التي جعلت المزيد من الإيرانيبن العلمانيين والقوميين ينضمون إلى طائفة المتدينين، في المعسكر المناهض للسعودية والحركة الوهابية، والتعبير عن غضبهم من الرياض.

وعبرت هذه المجموعة من الإيرانيين عن تلك الآراء المعادية من خلال شبكات التواصل الاجتماعي.

وفي حدث نادر، تجمع حشد من الأشخاص أمام القنصلية السعودية بمدينة مشهد، ولاحقا أمام السفارة السعودية بطهران، على نحو تلقائي ومستقل، لا علاقة له بالحكومة، كما استغلوا المشاعر المناهضة للرياض في مطالبة المتدينين من بني جلدتهم بحظر الحج إلى مكة، وتوجيه أموال الحج لتنمية المناطق الفقيرة. وبدأت تلك المجموعة حملة تحمل اسم “دعم جواز السفر الإيراني”.

الحقيقة أن وجود إيرانيين عاديين في الصفوف الأمامية في احتجاجات 11 أبريل أمام السفارة السعودية، وليس فقط هؤلاء الذين تتملكهم الاتجاهات القومية، جعل الشباب الأكثر تدينا، وأعضاء قوات التعبئة الشعبية “الباسيج” يشعرون أنهم بحاجة إلى فعل شيء أيضا، وتمكنوا بالفعل من تنظيم تجمع احتجاجي هائل آخر أمام السفارة السعودية في 13 أبريل.

وحمل المحتجون لافتات مختلفة، ورددوا شعارات متباينة، خلال التجمعين المذكورين. فعلى سبيل المثال، فقد هتف المتدينون بشعارات مؤيدة للحوثيين، وحملوا علم حزب الله، بينما لم يحمل المحتجون العلمانيون أي أعلام، ولم يدعموا الجماعات الشيعية التي تحظى بدعم طهران.

ولكن بالرغم من تلك الاختلافات، فإن هذا الغضب الجماعي ضد السعوديين يمثل إحدى الحالات القليلة التي يتفق فيها العلمانيون ورجال الدين في إيران.

من جانبه، قال الصحفي الإيراني سدار محقق، المقيم في طهران، للمونيتور : ” العديد من العلمانيين الإيرانيين يفتقدون الاهتمام بالدين، ولا يروق لهم هذا التواجد القوي للحضارة الإسلامية في إيران، لكنهم استغلوا تلك الفرصة، وشاركوا في هذا التجمع، لأنه لا يجدون في الظروف العادية فرصة للتعبير عن أنفسهم، بل يواجهون اتهامات بمعاداة الإسلام”.

أما الصحفي الإيراني مجتبى فتحي فقد تحدث للمونيتور عن تاريخ التوتر بين طهران والأقطار العربية قائلا: “قبل الثورة، تمكنت إيران، بدعم من الولايات المتحدة والقوى الغربية، أن تضحى القوة المهيمنة في المنطقة، لكن الدول العربية لم تستطع هضم تلك الحقيقة، وبعد ثورة 1979، تلطخت علاقات إيران بالغرب، واستطاعت السعودية في هذه الأثناء الاستحواذ على الدور الإيراني الإقليمي من خلال التقرب إلى واشنطن وإسرائيل. وكان طبيعيا ألا تشعر الجمهورية الإسلامية بالراحة إزاء تلك التطورات. وتسبب دعم المملكة لأعداء إيران، لا سيما أثناء حرب الأخيرة مع العراق، في ترسيخ مشاعر العداء ضد السعودية. ومن حين إلى آخر، يحتج مسؤولون إيرانيون علنا على ممارسات الرياض، ويصاحب تلك الاحتجاجات دائما أصحاب الميول المعادية للعرب”.

مع سقوط الشاه عام 1979، حاولت الحكومة الإسلامية الجديدة الترويج للثقافة الشيعية الإسلامية، وتهميش ثقافة ما قبل الثورة الإسلامية، والتي روجت لها سلالة بهلوي.

وعلى سبيل المثال، حظرت الجمهورية الإسلامية تبحيل الملك الإيراني الشهير سايروس، والذي يعزي عصره لأكثر من 1000 عام قبل مجئ الإسلام.

لكن ممارسات النظام الإيراني، والتوتر الذي خلقه مع الغرب أدى إلى اعتقاد الكثير من أهل الحضر الإيرانيين أن حكومتهم أجنبية معادية للإيرانيين، وحاولوا الاحتجاج على ذلك الوضع.

وأثناء سنوات رئاسة محمد خاتمي، حدث تقارب مؤقت بين الطبقات العلمانية والمعاصرة من جانب، وبين الحكومة الدينية من جانب آخر. وبالرغم من أن خاتمي رجل دين، إلا أن الكثير من أنصاره اعتقدوا أنه قادر على إنهاء العداوة بين جزء كبير من المجتمع، والحكومة، ولكن مع اقتراب الولاية الثانية للرجل من نهايتها، حل الإحباط محل الأمل، وتعمق ذلك الشعور مع انتخاب أحمدي نجاد.

محمد خاتمي رئيس إيران الأسبق
محمد خاتمي رئيس إيران الأسبق

وتسببت سياسات نجاد في عزلة متزايدة لإيران، وأجج القمع الوحشي للنظام ضد المتظاهرين عام 2009، المزيد من مشاعر خيبة الأمل والاختلاف، حيث انزعج العديد من الإيرانيين من افتقاد دولتهم للوضع والاحترام اللذين كانت طهران تتمتع بهما بين المجتمع الدولي يوما ما، ولعل ذلك التردي في وضع جواز السفر الإيراني مثل إشارة واضحة للأوضاع آنذاك.

وبنهاية الولاية الثانية لأحمدي نجاد، كانت إيران قابعة تحت عقوبات صارمة، ومنعزلة جدا عن سائر العالم، وهو ما كان السبب في نجاح الحملة الانتخابية لحسن روحاني، والتي ارتكزت على وعود لإحياء مصداقية جواز السفر الإيراني.

ويرغب المعسكر العلماني الإيراني أن تستعيد طهران قوتها الإقليمية، والخروج من عزلتها. وربما كان ذلك السبب في صعود شعبية قاسم سليماني قائد فيلق القدس، التابع للحرس الثوري الإيراني، خلال الشهور القليلة الماضية.

وحتى منصات المعارضة الإيرانية التي تعمل من الخارج وضعت سليماني في قوائم مرشحي رجل العام.

الملايين من المستخدمين الإيرانيين لموقع فيسبوك هاجموا وزير الخارجية الفرنسي عبر صفحته على موقع التواصل الاجتماعي، حيث اعتبروه مسؤولا عن فشل المراحل الأولى من المفاوضات.

ورغم نشاط الإيرانيين من ذوي التوجهات العلمانية والقومية خلال العقود القليلة الماضية، لكن ذلك النشاط ترسخ خلال العام المنصرم، جراء ظهور إدارة أكثر شرعية، والنزاعات الإقليمية المرتبطة بإيران.

ثمة أمر هام مفاده أن مهاجمة الإيرانيين القوميين والعلمانيين لفابيوس، وكذلك احتجاجهم أمام السفارة السعودية ليست علامة عداء للغرب أو للعرب، لكنها نتاج رغبة شديدة في خروج إيران من عزلتها الدولية، وأن تستعيد طهران مجددا وضعها السابق على الصعيدين الإقليمي والدولي.

ولذلك، بمجرد حدوث واقعة مطار جدة، انطلقت حركة شعبية إيرانية، واكتسبت زخما كبيرا عبر أرجاء إيران، في المدن الكبيرة والصغيرة على حد سواء.

وفي سياق ذلك الاتجاه القومي، والرغبة في تنامي وضع طهران على المستويين الإقليمي والدولي، يكتسب سليماني شعبية كبيرة.

المصدر

إقرأ المزيد

محمد جواد ظريف.. الدبلوماسي الذي تربى على طاولة المفاوضات

هل نشهد عصرا إيرانيا في المنطقة العربية ؟ (2) : التدخل الإيراني في العراق : التاريخ والواقع والمستقبل

هل نشهد عصرا إيرانيا في المنطقة العربية ؟ (3) : الدور الإيراني في سوريا: ضرورة استراتيجية

هل نشهد عصرا إيرانيا في المنطقة العربية ؟ (4) : إيران : خلافات المفاوضات النووية