لوغاريتمات الصعود إلى دور الـ 16

تميزت بطولة اليورو الحالية بمشاركة 24 فريقًا للمرة الأولى بعد أن كانت تضم 16 فقط خلال النسخ الماضية. شكّل ذلك تغييرًا في نظام التأهُّل من دور المجموعات يبدو أثره واضحًا خلال تلك الأيام التي تشهد اقتراب انتهاء الجولات الثلاث الأولى.

نظام التأهّل يقتضي أن يضم الدور الثاني 16 منتخبًا، من بينهم 12 هم حصيلة صدارة ووصافة المجموعات الستة، بينما تتبقى أربعة مراكز محجوزة للمنتخبات صاحبة الأفضلية في المركز الثالث. لكن ما هي معايير الاختيار الخاصة بأصحاب المركز الثالث؟، ببساطة، بعد انتهاء الجولات يوم الأربعاء سيتم مقارنة المنتخبات الحاصلة على المركز الثالث في كل المجموعات من حيث: عدد النقاط، فارق الأهداف بين ما سجله واستقبله الفريق، عدد الأهداف المسجلة، نظافة اللعب باحتساب الكروت الحمراء والصفراء. تلك المعايير في مقارنة أصحاب المركز الثالث تقوم على الترتيب مما يمنح دائمًا أفضلية للمنتخب صاحب عدد نقاط أكثر بغض النظر عن فارق الأهداف؛ وبالتبعية تكون الأفضلية لأصحاب فارق الأهداف عن اللعب النظيف.

لكن حسبة دمج أصحاب المركز الثالث في مواجهات دور الـ 16 تتعقد في سيناريوهات متباينة بحسب مواقع تلك المنتخبات من المجموعات، بمعنى أنه بافتراض أن أفضل ثوالث تم تصعيدهم من مجموعات 1،2،3،4 فإن مواجهات دور الـ 16 ربما تختلف تمامًا إن كان المتأهلون من مجموعات 6،5،3،1. كمثال توضيحي، فإن أول المجموعة الأولى، منتخب فرنسا، سوف يواجه ثالث المجموعة الثالثة أو الرابعة أو الخامسة. أما أول المجموعة الثانية، منتخب ويلز، سيلاقي ثالث المجموعة الأولى أو الثالثة أو الرابعة.

سبس
جدول يشرح احتمالات المواجهات في دور الـ 16 حسب المجموعات التي سيتأهل منها أصحاب المركز الثالث – المصدر: ESPN

يسعى ذلك التقرير إلى تسليط الضوء على تجربة منتخب «ألبانيا» التاريخية بتأهلها للمرة الأولى لبطولة دولية. ألبانيا التي حققت مفاجأة فاحتلت المركز الثالث في مجموعتها وستكون في مواجهة إما ويلز أو الأول من المجموعة الثالثة إن تأهلت إلى دور الـ ـ16.


إيطالي يرفع العلم

جياني دي بياسي، مدرب منتخب ألبانيا

أنهى نادي أودينيزي علاقته بالمدرب غير المتميز «دي بياسي» خلال 2010 بعد أداء باهت ونتائج غير مرضية. فيما كان «أرماندو دوكا» رئيس اتحاد الكرة الألباني يفكر في الخطوة التي من شأنها تشكيل نقطة تحول وانطلاق للرياضة الألبانية. البلد التي نالت قسطًا وافرًا من مآسي الحروب عبر تاريخها، إلى أن أجبرت يوغسلافيا على الانسحاب عام 1999. لابد أنها كانت تعامل الرياضة باعتبارها ترفًا لا تملك له جهدًا أو باعتبارها استنزافًا للموارد البشرية.

عرض دوكا علي جياني فكرة خوض تجربة جديدة تحاوطها المغامرة والغموض بتدريب منتخب بلده. كان دوكا يستهدف إحراز تطور في إدارة الكرة الألبانية بإستقطاب المدرب الذي لا يحظى بأهمية تسويقية. وافق الإيطالي بعد مشاورة زملائه المدربين الذين نصحوه بضرورة التريث لكنه اختار القرار الذي سيحوله إلى بطل قومي بعد سنوات معدودة!.


تيرانا أول مرة

واجه دي بياسي أول ما واجه في العاصمة تيرانا عزوف اللاعبين عن اللعب لمنتخب بلادهم الذي لا يمتلك تاريخًا أو إمكانيات للمستقبل؛ إذ يختار أغلبهم تمثيل منتخبات أخرى تحظى بقدرات ودعم وتغطية إعلامية. هذا التحدي المركب الذي يستهدف أدوات رئيسية يمتلكها أي مدرب كان على جياني مواجهته سريعًا، فقام الأخير بجولات ومقابلات كان لها مفعول السحر على الجيل الحالي من اللاعبين، إذ يقول: «استطعت أن أفوز بثقتهم لأني أدركت المصاعب التي يواجهونها. حاولت أن أقدم النصيحة دائمًا داخل وخارج الملعب»، وكان هذا هو الإنجاز الأول الذي استطاع الإيطالي تحقيقه.

أدرك أنه لن يمتلك فريقًا متماسكًا قبل أن يمتلك قائدًا يمثل مركز ثقل القدوة للاعبين اختارهم بنفسه من شتات. فسرعان ما اهتم بالمدافع «لوريك سانا» صاحب الخبرة الأوروبية ولاعب مارسيليا ولاتسيو السابق، وعمل على تطوير حالة انسجام في قيادة الفريق بين ما هو فني و ما هو تكتيكي وما هو معنوي يرتبط بخصوصية ألبانيا ويعتمد على نجومية سانا التي طالما لاقت اهتمامًا محليًا في مجال كرة القدم، كما ضم لجهازه المعاون اللاعب والمدافع السابق لكل من إنتر ميلان وتوتنهام «باولو تريمزيني» الذي خاض تجارب عديدة بأندية مختلفة دون تحقيق إنجاز.

استغل دي بياسي تصفيات كأس عالم 2014، فخاض عددًا من المعسكرات والمباريات طلب خلالها المساندة الجماهيرية، وتعامل بذكاء فريد لاكتساب ثقتهم. وكان أقرب لمستثمر وطني يحمل مشروعًا لإنقاذ بلده من مدرب أجنبي يسعى لشخصه فقط، فتارة يتفاعل مع النشيد الوطني، وتارة يضخ الحماس للاعبيه عبر الجمهور، وتارة يرفع العلم الألباني، وربما كان هو الرياضي الأول في التاريخ الذي يرفع هذا العلم. انصب استغلال دي بياسي للتصفيات على متابعة وتطوير أداء لاعبيه ومحاولة الوصول لأفضل تشكيل، لكنه لم يُوفَّق في التأهل. لكن كما يزعم الإيطالي نفسه فإنها كانت تجربته الأكثر أهمية خصوصًا عندما برزت أسماء بالفريق مثل لينياني، صالحي، إدجار ساني، أرماندو ساديكو، وهو الفريق الذي سيكون له شأن آخر بعد 3 أعوام من التصفيات.


تصفيات يورو 2016: الاصطدام بالكبار

كانت تجربة الإيطالي قد خرجت لتوها من مرحلة التنظير وما صاحبها من دعم جماهيري، ودخلت إلى الاختبار العملي عندما أوقعت القرعة ألبانيا في مجموعة تضم «البرتغال، الدنمارك، صربيا، أرمينيا». كان تحديًا جديدًا يقوم في جانبه الأكبر على الفروقات الفنية والبدنية، ويزداد هذا التحدي تعقيدًا عند معرفة أن مباراة ألبانيا الافتتاحية ستكون في مدينة افيرو البرتغالية وسط حضور جماهيري يتجاوز 23 ألف مشجع، لكن دي بياسي كان على موعد مع مفاجأة مدوية أحدثها مهاجمه «بيكيم بلاج» عندما تقدم الضيوف واستطاعوا اقتناص نقاط المباراة الثلاثة لصالحهم. ذهب كثيرون في تفسير هذه النتيجة إلى خلل أصاب البرتغال، لكن سرعان ما تراجعت تلك التفسيرات بعدما استطاعت ألبانيا التعادل مع الدنمارك في ثاني جولات التصفيات، وبدا لكثيرين أن المنتخب البلقاني يشكل تهديدًا لفرص الكبار.

استمر الفريق في تقديم أداء متماسك بخطوط مترابطة يلعب على ثغرات الخصم، كما كان لهم أن يستغلوا واقعة هامة حدثت خلال مباراة صربيا، إذ يمكن تصور أجواء المباراة بمجرد معرفة العداء التاريخي بين البلدين. وقد بدأت القصة عندما هتف الجمهور الصربي بقوة في محاولة لوضع الخصم تحت ضغط عصبي حتى حلقت في أفق الملعب طائرة تحمل العلم الألباني، وهو الأمر الذي استفز أحد لاعبي صربيا، فأمسك بالعلم وحاول إخراجه من الملعب، فكانت بداية اشتباكات أسفرت عن إلغاء المباراة. وقاد دي بياسي الاتحاد الألباني أمام الفيفا إلى انتزاع نقاط المباراة لصالحه، وهو ما دفع ألبانيا لاستكمال مشوارها بعد أن عزز من فرصها في التأهل.

أنهت ألبانيا التصفيات في المركز الثاني بعد البرتغال لتتأهل للمرة الأولى في تاريخها إلى بطولة كبرى تحت قيادة «دي بياسي».


صور متعددة للتكريم

انتهت آخر مباريات ألبانيا في التصفيات بتغلبهم على أرمينيا، فغادرت طائرتهم معلنة تأهلهم. وفُتِحت أبواب الطائرة ليبدأ دي بياسي الهبوط في سكينة وألفة وترسم البسمة ملامح وجهه، في انتظاره رئيس الوزراء الذي سيتخلي عن الرسمية ويعانق دي بياسي كعرفان وامتنان من الدولة بإنجازه التاريخي. ودارت حافلة الفريق في داخل البلد بين أمواج حمراء من الجماهير التي خرجت تستقبلهم بالترحاب والاحتفال والوعد بمواصلة الدعم خلال جولات البطولة.

ثم توجه الفريق إلى القصر الجمهوري من أجل تكريم رفيع المستوى، وأتيحت خلاله الفرصة لكل من دي بياسي والقائد سانا لإلقاء كلمة من أعلى منصة رسمية في البلد، وأتى ذلك بعد منحه الجنسية الألبانية وسط ترحيب منه ومن عائلته. ولطالما تعامل دي بياسي مع مهامه في ألبانيا بشديد الاهتمام والشغف، وهو الذي قال: «أنا لست هنا كسائح»، صور متعددة لتكريم مستحق ناله الرجل الذي كتب تاريخًا جديدًا للبلد.


نظرة على الفريق: أسلوب اللعب والفرص

في البداية، اعتقد قليلون أنه ليس بإمكاننا تحقيق شيء، لكننا تكاتفنا لأجل تحقيق الإنجاز، وتجديد عقدي سيكون بشكل أوتوماتيكي.

كان سؤال: «هل يكون دي بياسي هو برونو ميتسو الجديد؟» يتردد قبل بداية البطولة، إذ أن الظروف كانت متشابهة مع تجربة السنغال 2002 حتى حين اختارتها القرعة للوقوع في المجموعة الأولى لكأس العالم مع فرنسا.

لا يمتلك الإيطالي الإمكانيات الفنية التي امتلكها ميتسو قبل ذلك، إذ أن أغلب لاعبيه يؤدون بمستويات متوسطة. لذلك تعامل بواقعية مع ما يملك، وحاول صناعة فريق إيطالي من منتخب يعتمد على تضييق المساحات على الخصم والتكتل في نصف الملعب «زون ديفينس»، والضغط عن طريق الأطراف لينياني وليلا، مع محاولة استخلاص الكرة في نصف الملعب لارتداد هجومي سريع خاطف عن طريق التسديدات أو العرضيات للمهاجم ساديكو الذي أصبح أمل المنتخب بعد هدفه في مرمى رومانيا. ويستند هذا الارتداد الهجومي على الأطراف على باكات قليلي التقدم هسياج وأجوللي، وعلى وسط ملعب يمتلك تشاكا وأبراشي اللذان يمتلكان القدرة على الضغط وإفساد الهجمات.

طريقة دي بياسي الدفاعية التي تمثل 1/5/4 عند امتلاك الخصم الكرة سرعان ما تتحول إلى 3/3/4 عند استخلاص الكرة. في النهاية ظهر فريق يصعب أن يسجل أكثر من هدف في حالة فوزه، ويصعب أن ينهزم بنتيجة عريضة.

أفضل لاعبي الفريق حتى الآن هم ساديكو، لينياني، أبراشي. لكن الفريق الألباني يعاني مع العرضيات بسبب سوء الرقابة أحيانًا وسوء تمركز الحارس بريشا.

خسرت ألبانيا من سويسرا وفرنسا، لكنها حققت مفاجأة بتغلبها الأول على رومانيا عن طريق هدف رائع سجله ساديكو بعد أن استغل سوء المراقبة الرومانية والخروج الخاطئ لحارس المرمى ليعلن عن الهدف الألباني الأول في التاريخ. منح هدف ساديكو المركز الثالث لمنتخبه في المجموعة بفارق أهداف يساوي -2 وفرصة، ولو بسيطة، للتأهل إلى دور الـ 16.

الفرصة تتعلق بنتائج كل من: «ألمانيا مع إيرلندا»، كما تتعلق بمباراة «تركيا والتشيك» بحيث تنتهي بالتعادل أو بفوز الأتراك بهدف، وتقام تلك المباريات الليلة. والفرصة قائمة أيضًا إن استطاعت بلجيكا الفوز أو التعادل مع السويد، أو في حالة انتصار المجر على البرتغال. إذا تحقق احتمالان من تلك الاحتمالات الأربعة فإن فرص ألبانيا ستكون كبيرة للغاية لبلوغ دور الـ 16.

أحب أن تتأهل ألبانيا إلى دور الـ 16 لأني أقدر الدور الذي قام به الإيطالي دي بياسي مع فريق كان لا يشكل أي أهمية منذ عامين فقط، وعمل بإخلاص وبروح محبة منتمية بلا تسليط إعلامي أو دعم مالي استثنائي؛ لأن كرة القدم لعبة تقوم على المساواة والاجتهاد وتطوير الموهبة، ولأن عبور ألبانيا بعد تمسكها بالأمل الأخير سيمثل انتصارًا لمنتخبات تحاول وتجتهد على حساب منتخبات أخرى تحتوي أسماء كبيرة تتخطى أسماء ألبانيا بسنوات بدون شك لكنها قدمت بطولة سيئة.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.