هذه هي الثالثة من سلسلة رسائل يكتبها «ياسين الحاج صالح» لزوجته «سميرة الخليل»، المخطوفة في دوما منذ مساء يوم 9/12/2013، يحاول فيها أن يشرح لها ما جرى في غيابها. نشرت لأول مرة في جريدة «الجمهورية».

حتى إذا أمكن تخيل الظروف العامة المتدهورة، ربما تتساءلين يا سمور: كيف حصل أنك مغيبة منذ ثلاث سنوات وسبعة أشهر وعشرين يوماً، وأنت تعرفين أن لنا أصدقاء ومعارف، إن لم يكونوا في قيادة المعارضة الرسمية، فهم قريبون منها ولهم علاقات ونفوذ؟ هذا موضوع لا يسرني الكلام فيه، لكن لا بد مما ليس منه بد.

الحقيقة أن ما تعرفين من أجسام معارضة أصدرت بيانات وقت خطفكم، لكن كان هذا هو كل ما فعلوه تقريباً. ويبدو أن بعض شاغلي المواقع السياسية النافذة اتصلوا وقت جريمة الخطف بجهات إقليمية مؤثرة مثل وزير خارجية قطر، والظاهر أن هذا تكلم في الأمر فعلاً مع سلطة الأمر الواقع والمشتبه بارتكابها الجريمة، جيش الإسلام، لكن دون ضغط حقيقي، ودون متابعة منذ ذلك الوقت أيضًا.

وللأسف لم يتابع أصحابنا المعروفون النافذون القضية، ولم ينطق بعضهم بكلمة أو يطلق تصريحًا أو يحاول ممارسة ضغط، أو يكتب مقالاً، أو يعرض مساعدة من أي نوع، عليَّ أو على أهل رزان ووائل وناظم. أخجل أن أعترف لك بذلك يا سمور. ولا أريد أن أذكر أسماء أو تفاصيل، وهناك الكثير منها.

لا تفهمين لماذا، أجد صعوبة في فهمه أنا أيضًا. لكن أقدّرُ أن هناك شيئين أو ثلاثة. يبدو أن الجماعة أولاً منشغلون بأنفسهم وعلاقاتهم وسيرهم، ولم يبدُ أن في داخل أكثرهم ما يثقّله أو يعطيه وزناً وميزة مُقدّرة، شخصية أو عامة. وثانيًا: فتّشي عن السياسة! عن المصالح السياسية: من هو من، ومن هو مع من، ومع من تنفع العلاقة ومع من لا تنفع؟ نحن لسنا قوة تملك المال أو السلطة أو العلاقات، نفعنا قليل لأي باحثين عن منافع يا سمور.

في الوقت نفسه نحن، أعني أربعتكم وأنا وأصدقاءً وأشباهًا لنا، خارج السيطرة، لسنا تابعين لأحد، ولا يضمننا أحد، وليست عيوننا مكسورة أمام أحد. هذا يجعلنا أشبه بذكرى مزعجة من زمن فات في عين الوجهاء الجدد، وفي أقل حال أناسًا يستحسن تجنبهم من طرف هؤلاء العاقلين المنضبطين المضمونين. ولا أستطيع إلا أن أقول، ثالثًا، إن الجماعة أظهروا قلة حسّ وقلة إنسانية لم أكن أتوقع مقدارهما.

أخجلُ أن أكتب يا سمور أن بعض من تعرفين لم يتصلوا بهاتف أو يرسلوا «إيميل» للتعبير عن تضامن أو للسؤال. أخجلُ لأن هذا يظهرني ساذجًا على الأقل. أضيفُ بعد هذا كله شيئًا رابعًا: الغباء. أياً تكن المصالح الشخصية والسياسية، كان يمكن للجماعة أن يعطوا أنفسهم بعضَ وزنٍ وبعضَ استقلالية لو أعطوا قضيتكم الاهتمام المستحق، ولكانوا خاطبوا قطاعًا متنوعًا ومهمًا من جمهور الثورة وجدَ نفسه غير ممثل في الهياكل التي قامت باسمها وتصدروها هم، ولوفروا لأنفسهم هامش مناورة أوسع حيال مجموعات وقوى، قد يمكن (بمشقة) فهم أنهم لا يستطيعون القطيعة معها، لكن كيف يمكن فهم أنهم لا يستطيعون نقدها والتمايز عنها والاعتراض عليها؟ ليس فقط لم يساعدونا، لم يساعدوا أنفسهم أيضًا. هذا تواضعٌ في المؤهلات، وفي الضمير، وفي الخيال، وفي المهارة السياسية. انتهازيونا الكرام محدودو الذكاء.

سأضرب لك مثالاً. قبل أكثر من عام صادفت شخصًا مهمًا تعرفينه، وهو يعرفك ويعرفني جيدًا جدًّا، وكان التقى زهران علوش وقت جاء إلى تركيا قبل في نيسان وأيار 2015، ولم يفتح فمه بكلمة في شأنكم. أحسَّ بجفافي، فبرَّرَ نفسه بالقول: «مو طالع بإيدنا شي»؟ قلتُ له وقتها إن هذا الكلام غير صحيح. لكن قبل حين، صارَ هذا الرجلُ الذي «مو طالع بإيدو شي» في موقع مهم في الائتلاف. يصعبُ التعليقُ على الأمر. من «لا يطلع بإيدهم شي» يُستحسن أن يجلسوا في بيوتهم بدل تصدّر مواقع العمل العام المفترضة، وإلا فإن زعم «مو طالع بإيدنا شي» يخفي انحيازًا ضدنا وحسابات صغيرة وأنانية وإرضاء قوى مجرمة، لكن نافذة، على حساب المناضلين الديموقراطيين غير النافذين.

وبمناسبة «مو طالع بإيدنا شي»، أعتقدُ يا سمور أن نوعية تطلعات الجماعة وروابطهم حدَّت بالفعل من خيالهم، فلم يعد «طالع بإيدهم» تَخيّلُ إمكانية تنظيم أنشطة احتجاجية مثلاً أو المشاركة فيما بادرنا إليه نحن من أنشطة، أو دعم أعمال فنية، أو إطلاق مبادرة إنسانية بمناسبة ما (ذكرى الثورة مثلاً، ذكرى تغييبكم مثلاً)، أو رفع صوركم في اجتماع ما، هذا كيلا أقول مقاطعة جيش الإسلام، وربما إصدار كتيّب عن ممارساته في الغوطة الشرقية، أو إطلاق مبادرة كبيرة من طرفهم في شأن قضيتكم.

قبل أن يكون هذا خذلانًا لا يغتفر لك ولرزان ووائل وناظم، هو خذلان للثورة السورية وقيمها. ثورة المغمورين الذين لا شأن لهم. لا يغتفر. ولم أجد طوال ما يقترب من 44 شهرًا أسبابًا تخفيفية تساعد على التفهم والغفران.

والمثال السابق واحد من أمثلة كثيرة متكررة، سأفصّلها لك حين تعودين، لكنها تقول إن لدينا مشكلة عميقة، عميقة جدًّا، في المعارضة التقليدية التي ننحدر نحن، أنت وأنا، منها يا سمور. الجماعة في موقع آخر ليس موقع الثورة، ليس في موقع قريب ممن اعتقلوا وعذبوا وقتلوا، ومن خطفوا وغيبوا، ومن هجروا، ومن يسكنون اليوم في الخيام داخل سوريا وخارجها.

لا أتجنب ذكر أسماء وتفاصيل هنا من باب المسايرة، فقد صرتُ يا سمور أقل مسايرة حتى مما كنتُ من قبل. لكن لا أريد تصغير قضيتنا إلى مظلومية خاصة واتهامات وتبرير. مثلما أنت ورزان ووائل وناظم تخوضون الصراع الأقسى والأنبل، أحاول خوض صراع مماثل يُكرِّم قضيتكم، أنا الذي نجوت. والجماعة، أقول لك مرة أخرى، في موقع آخر غير كريم، ليس موقع الصديق ولا الشريك.

لكن هناك نصف ملآن من الكأس كما يقال يا سمور. في العمل من أجل حريتكم يشارك أصدقاء لنا وصديقات، تعرفين بعضهم وتتوقعينهم، ولا تعرفين آخرين، كثيرٌ منهم ليسوا حتى سوريين، وبعضهم لا أعرفهم شخصيًا أنا أيضًا. رغم كل شيء لسنا وحدنا يا سمور. يجمعنا بشركائنا أننا لسنا من أهل النفوذ والعلاقات، لكننا عاملون من أجل العدالة لنا ولغيرنا في هذا العالم المتدهور. يسألني عنك كثيرون في كل مكان، ويتابعون قضيتكم، ويشعرون أنهم يعرفونك. هذا يقويني، وأرجو أنه يصلك ويقويك. ويصل إلى رزان ووائل وناظم ويقويهم.

لسنا وحدنا يا سمور.

واليوم مثلما من قبل، العمل مستمرٌ من أجل حريتكم يا سمور. ولن يتوقف. أرجو أننا صنعنا قضية قوية، والأمل أن نستطيع ترجمة قوتها الأخلاقية إلى قوة قانونية وسياسية. وأكبر أملي أن تهتمي بصحتك وأن يواتيك الصبر والعزم، إلى أن تعودي في وقت قريب.

بوسات يا قلب

ياسين

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.