انفصلت «شعبنة العلوم Science Popularization» (رغم اتصالها بنفس النوع من المعارف) عن السياق العلمي لتصبح نشاطًا قائمًا بذاته يعمل فيه العلماء جانبًا إلى جنب مع الهواة ومتخصصي مهارات التواصل والإخراج والتسويق، بل تشعبت بداخلها لعدة مجالات تتعلق بنوعيات المواد المقدمة وطرق تقديمها فظهرت الصحافة العلمية والميديا العلمية والوثائقيات والكتب والمقالات وصفحات التواصل الاجتماعي… إلخ.

تبسيط العلوم هو خطوة أولى لتوصيل المفاهيم العلمية المتخصصة، ليس فقط لعموم الناس، ولكن كذلك لرجال السياسة والاقتصاد حينما يحتاجون لاتخاذ قرار سياسي، عسكري، اقتصادي ما مرتبط بالعلوم؛ لذلك، فالقضية تحظى بأهمية جوهرية، حتى أن فلسفة العلوم- خاصة الفلسفات النقدية- في النصف الثاني من القرن العشرين اهتمت بتحليل ذلك النوع الجديد من الصناعة ودرجة تأثيره السلطوي في توجيه العامة والمؤسسات على حد سواء. نحن في عصر يحظى العلم فيه بمكانة عالية بين الجمهور، ومجرد إلقاء أحد مصطلحاته في نقاش ما كفيل بتغيير الدفة، وإعطاء شخص ما لقب «عالم» يعطيه سلطة على كل مستويات الجمهور.

تاريخ توصيل العلوم للعامة قديم للغاية، لكن إصدار «ستيفن هوكينج» لكتاب «تاريخ موجز للزمان» سنة 1988م كان نقطة تحول حقيقية في تاريخ تلك الصناعة، لقد باع الكتاب خلال 20 سنة أكثر من 10 مليون نسخة وترجم لأكثر من 35 لغة وظل في قائمة الكتب الأكثر مبيعًا لأربعة سنوات متتالية، وهو ما لفت انتباه دور النشر للموضوع، هنا تحديدًا بدأت صناعة «شعبنة العلوم» تتخذ منحنى أكثر إثارة.


مشكلة تبسيط العلم

تبدأ المشكلة من لغة العلم، فمبسط العلم يحاول ترجمة مصطلح يتميز بالجفاف، والجمود، و ربما الصياغة الرياضية والوضوح الشديد الذي يبتعد بالمعنى قدر الإمكان عن التكهن (Speculation) الكامن وراء تأويله، إلى لغة عامة ذات كلمات فضفاضة واسعة الأفق، تتحمل العديد من التأويلات والتصورات، و هو ما قد يتسبب في نقل فكرة مختلفة عن الموضوع محل التبسيط وربما عن العلم كله، ويسمح للمبسط– بقصد أو بغير قصد– أن يستخدم تلك اللغة في تمرير معانٍ قد تكون غير ذات علاقة بالعلم، لكنها تبدو كأنها جزء منه. كذلك يسمح عدم دقة اللغة المستخدمة لغير المتخصص نفسه بملء ما يعنيه المصطلح العلمي، كالتشابك الكمّي أو التمدد الزمني أو القفل المدّي من دائرة ثقافته ومفرداته الخاصة، فكأنما هو يقرأ مصطلحًا مختلفًا تمامًا.

دعني هنا أضرب مثالاً للتوضيح، لنفترض أن المقطع القادم هو جزء من مقال عن الميكانيك الكمومي:

لقد قمت بإسقاط رؤية خاصة هنا حينما استخدمت كلمات كـ «ضجيج» و «متوتر»، لأعبر ربما عما أرى الكون من خلاله، إنها وجهة نظري، لتكن فكرتي عن الفوضى أو عن شكل ما من أشكال القلق الوجودي، ما يهم هو أن اصطلاحات كالتموج الكمومي أو الدالة الموجية أو مبدأ عدم التأكد، ربما تعبر عن صورة أكثر تجريدًا وأقل اتصالاً بلغتنا المعهودة وربما بالواقع كما نعرفه، تلك المشكلة لا يمكن التخلص منها.

هدف مبسط العلم الرئيسي هو التأشير على نقطة حرجة للغاية يصل فيها أكبر كم ممكن من المعنى للقارئ بأبسط لغة ممكنة. دعنا نتصور خط أعداد يمتد ما بين نقطتين، على أقصى اليمين يقع المعنى الرياضياتي المجرد، كأن نضع معادلة ديراك هناك، و على أقصى اليسار تقع أكبر درجة إخلال بالمعنى، كأن تربط ميكانيكا الكم بقانون الجذب في كتاب «السر». يمكن القول هنا إن ميكانيكا الكم خاصة قد نالت أكبر قدر من الربط بكل شكل ممكن من أشكال الهراء غير العلمي، بداية من كتاب «الكون الروحاني: كيف تثبت ميكانيكا الكم وجود الروح» مرورًا بـ «لين ماكتاجرت» التي تتخذ نظرية المجال الكمّي كقاعدة لنظرية، من دون معادلة واحدة، تأسست لفهم كل شيء في الكون وربطه بالوعي، حتى وثائقي شهير بعنوان «الصحوة: ميكانيكا كم الدماغ»!

ساهم في تلك المشكلة ضغط دور النشر على الكتّاب لتبسيط الاصطلاحات بأكبر قدر ممكن مع تخفيض عدد المعادلات والمخططات مهما كانت بسيطة بدرجة F=Ma. يقول «شون كارول» الفيزيائي الشهير من MIT، إن الرسم البياني الشهير لاكتشاف الهيجز بوزون قد تسبب في مشكلة حينما أراد نشره في أحد كتبه فنصحته دار النشر أن يتغاضى عن ذلك المخطط البياني لأنه «مفرط في العلمية»، هنا رد كارول قائلاً: «لقد تكلف ذلك الرسم الصغير 9 مليار دولار، إنه جوهر الكتاب!» نعرف جميعًا تلك الحكاية الشهيرة عن ستيفن هوكينج حينما نصحة القائمين على الكتاب ألا يضيف أي معادلة لأن ذلك قد يخفض من المبيعات بشكل كبير، فأبى أن يضيف إلا E=MC2.

أضف لذلك أنه، بسبب خوف دور النشر من الخسارة، أصبحت كتب تبسيط العلوم نسخًا مكررة لنفس النمط، فكتاب أو وثائقي عن الكم أو فيزياء الجسيمات يجب أن يبدأ من ديمقريطس أو جاليليو ثم يذهب عند كوبرنيكوس ثم يدور حول نيوتن ثم ينتقل لأينشتين و يحط قليلًا عند جملة «إن الله لا يلعب النرد» ثم نبحر نحو الكوانتم. الجميع يمارس نفس التسلسل بنفس الطرق خشية فقدان الجمهور، لكن ذلك يؤدي في النهاية لإعادة إنتاج نفس الأنماط تحت عناوين مختلفة بدون أي إبداع أو مغامرة غير محسوبة العواقب لاختبار درجة تقبل الجمهور؛ لتحدي فضولهم و ذكائهم، في مواجهة معادلة بسيطة أو مصطلح جديد.

حاول أن تقارن بين «الكون في قشرة جوز» و«تاريخ موجز للزمان» وهما كتابا هوكينج الشهيرين، إنهما نفس الموضوع، الأمر يشبه أن ينجح فيلم كـ Twilight فتقرر أن تصنع منه أجزاء متتالية خشية أن تغامر بتقديم رائعة هوليوودية مختلفة فتخسر ملايينك، لذلك سوف نضطر كجمهور للتعامل مع نفس المستذئب لمدة 6 سنوات متتالية، أليس ذلك مملاً ؟!.


هل هذا هو العلم؟

تعلمنا ميكانيكا الكم أن الكون لا يمكن أن يهدأ، حيث يتنافى ذلك مع مبدأ عدم التأكد لهاينزبرج، هناك دائمًا نوع من الحركة، الضجيج، حتى في الفراغ الفيزيائي الذي يُفترض أنه نقطة سكون، نجد أن التموج الكمومي قادر دائمًا على خلق زوج من جسيمات الافتراضية بشكل لحظي لفترة غاية في القصر زمنيًا ثم يقوم كل منهما بإفناء الآخر، نحن نعيش في كون متوتر.
يود جمهور شعبنة العلوم التعرف على اصطلاحات مثيرة للخيال، يحد ذلك من كم الأفكار العلمية الممكن تبسيطها، ويغلق الباب أمام عرض نظريات مهمة

يركز مبسط العلم في الغالب على منتجات العلم وليس على كيفية الوصول لها، نادرًا ما تحقق كتب أو مقالات أو وثائقيات عن المنهج العلمي أو عن خط سير العملية العلمية وكم المجهود المبذول في سبيل تحققها رواجًا وتسكن في قائمة الأكثر مبيعاً، يشبه الأمر أن تقوم بإنتاج وثائقي عن عالم الحيوان، تحقق الوثائقيات المرتبطة بقسوة الحياة البرية المُطعّمة بمشاهد لأسد يفترس غزالة مستسلمة لقدرها إقبالاً واسعًا بينما تتدهور مشاهدات فيلم عن رقصة تزاوج الفلامينجو على شواطئ البحيرات القلوية في كينيا سريعًا، كذلك يود جمهور شعبنة العلوم التعرف على اصطلاحات ملفتة للنظر ومثيرة للخيال، الأكوان المتوازية والمتداخلة وعالم الأبعاد الخفية والسفر في الزمن ثم العودة إلى الأرض صغيرًا في السن بينما قد أصبح العالم عجوزًا، يحد ذلك من كم الأفكار العلمية الممكن تبسيطها، ويغلق الباب أمام عرض نظريات مهمة، كنظرية المجال الكمي وهي – كما أظن – قمة إنجازنا العلمي كبشر إلى الآن، على الجمهور.

أضف لذلك أن الأمر، خاصة إن أضفنا ثورة شعبنة العلوم على وسائل التواصل الاجتماعي للمعادلة، لم يعد– حتى– يتضمن خط سير وصولنا إلى تلك الأفكار، فمبسط العلم يهتم بدرجة أكبر أن يشرح «كيف سوف يكون شكل العالم حينما تقترب من سرعة الضوء؟» بدون توضيح تفاصيل الوصول لتلك الأعاجيب، بمعنى أن دارس النسبية الخاصة، بأي درجة من التبسيط، سوف يتعامل مع مفاهيم كـ«التمدد الزمني» و«الانكماش الطولي» على أنها نتيجة طبيعية لتناقضات أساسية تظهر حينما نطبق مبدأ النسبية ومبدأ ثبات سرعة الضوء على راصدين في أطر مرجعية مختلفة، لازلنا هنا في أرض العقلانية العلمية. أما عن متلقي المعلومة من بعض كتب العلم الشعبي ووثائقياتها ومنشوراتها على فيسبوك وغيره، يظهر له الأمر كأن هذا المدعو «العلم» هو ساحر العصر الحديث، صانع الفانتازيا الجديد، فهو – باستخدام مجموعة من الطلاسم ربما – يطيل الزمن ويقصّر المسافات ويمكّننا من التواجد في مكانين مختلفين في نفس الوقت. هنا نحن ننفصل، ربما كليًا، عما تعنيه كلمة علم، نحن نعلم الجمهور شيئًا مختلفًا تمامًا.

يؤدي تجاهل العلم الشعبي، خاصة النمط المنتشر في وسائل التواصل الاجتماعي؛ لصعوبة العلم كمشروع إنساني، إلى نتائج كارثية. يدفع ذلك التبسيط المفرط بالبعض إلى تصور، مثلاً، أن ما فعله العلماء في المصادم الهادروني الكبير بـ CERN هو قذف بروتون ما بآخر لتظهر النتيجة في مساء نفس اليوم قائلة: «بينجو، لقد وجدنا الهيجز، لنحتفل». بينما يقول الواقع إننا نضطر لعمل الملايين من التصادمات بين حزم البروتونات في الثانية الواحدة، تتكرر تلك التصادمات عدة مرات أسبوعيًا، ثم بعد عدة أعوام نكون قد حصلنا على كم مجنون من الأشكال البيانية المزجزجة التي نحتاج لإدخالها دوريًا لحواسيب ضخمة ثم نبحث نتوءًا طفيفًا للغاية في بعض النتائج الإحصائية لكنه يعطي انطباعًا واضحًا متفقًا مع معادلاتنا المعقدة عن، ليس البوزون هيجز نفسه، وإنما الفوتونات الناتجة عن تحلله السريع جدًا حتى أننا لا نمتلك بعد أي تقنية لالتقاطه.

في المقال القادم نستكمل رحلتنا مع التحديات التي تواجه تبسيط العلم.