يقف على منصة التتويج في الأولمبياد المئات في كل دورة، يمتلك كل واحد منهم قصته الخاصة، رحلة تختلف صعوبتها من بطل لآخر، وخلف المئات يقبع آلاف امتلك كل منهم قصته أيضًا لكن لم يحالفهم التوفيق ليصعدوا المنصة، ولم يعزف النشيد الوطني لبلادهم على أيديهم.

هذا النشيد الذي تدفع الدول الملايين لأجل أن يعزف في الأولمبياد، وأن تضاف ميدالية جديدة إلى رصيد البلاد. لأجل هذه الميدالية يفقد بعض الأطفال حياتهم، وتغتصب الفتيات، وتفقد بعض الأسر أطفالها لسنوات، ويولد مئات الأطفال مشوهين. نحن لا نبالغ، ولم نخدعك بالعنوان، هذه قصص حقيقية لإجرام الدول لأجل ميدالية أولمبية، دعنا نبدأ.

إنه ابني لكني لم أعرفه

إنها أولمبياد لندن 2012، يفوز لين تشينغ فنغ بذهبية رفع الأثقال، يحتفل مدربه وتبدو السعادة ظاهرة عليه، على بعد آلاف الكيلومترات، وفي منزل لا تزيد مساحته عن 30 مترًا مربعًا، جلس السيد فنغ العامل الصيني الطاعن في السن، وحوله أسرته خلف شاشة التلفاز، تابع الجميع المنافسة بترقب واحتفلوا بالميدالية الذهبية التي نالتها الصين للتو، قبل أن يخترق صوت المعلق أذن العجوز، معلنًا اسم الفائز، ليكتشف أن الذي أمامه هو لين، ابنه.

لم يدرِ حينها السيد فنغ حقيقة مشاعره بالضبط، هل يفرح لأن ابنه فاز بذهبية الألعاب الأولمبية، أم يحزن لأنه لم يعرفه، لكن لم يمكنه أن يلوم نفسه على أية حال، فهو لم يره منذ ست سنوات ونصف، لقد مضى وقت طويل للغاية منذ تناول الطعام في المنزل، على حد تعبير والدته للصحفيين.

حيث قضى لين هذه السنوات لم يكن وحده، رافقه الآلاف من الرياضيين، من بينهم كانت وو مينشيا صاحبة ذهبية الغوص 3 مرات، آخرها في لندن 2012، عادت بعدها لتكتشف أن أجدادها قد رحلوا منذ أعوام، وأصيبت والدتها بالسرطان، لكن لم يخبرها أحد طوال هذه السنوات، لقد قبلت الأسرة منذ وقت طويل أنها لم تعد منهم كما يقول والدها

قضى الثنائي هذه السنوات في أكاديميات رياضية متخصصة، من بين أكثر من 2000 أكاديمية أنشأها النظام الصيني لأجل هدف واحد، إخراج أكبر عدد من الأبطال الأولمبيين، أيًا كان المقابل وأيًا كانت التكلفة.

تنشط هذه الأكاديميات في رياضات محددة، وهي التي يمكن فيها صناعة البطل دون موهبة فذة، ألعاب مثل التايكوندو والتجديف والسباحة ورفع الأثقال وتنس الطاولة والرماية، هذه ألعاب يضمن فيها التمرين المستمر تحسن المستوى وليس مرهونًا بموهبة الرياضي أو إبداعه الفردي.

تبدأ هذه الأكاديميات عملها منذ عمر 6 سنوات، يقوم مجموعة من المختصين باختيار الأطفال طبقًا لمتطلبات كل لعبة، إذا وجد أي طفل مطابق لمواصفات أي لعبة، فإنه ينضم إلى الأكاديمية مباشرة، ويكون أغلبهم من أطفال المناطق الريفية أو من أسر فقيرة، لأنهم يتأقلمون جيدًا مع الصعوبات على حد تعبير أحد المسؤولين الرياضيين هناك.

بعد ذلك يوجه كل طفل إلى اللعبة التي سيقضي حياته معها، وتبدأ رحلتهم مع تدريبات شاقة عنيفة لا تتناسب مع عمرهم، ويشاركون غرفهم مع عشرات الأطفال، ولا يحصلون على مستوى تعليمي جيد، ولا يسمح لهم بزيارة أسرهم إلا نادرًا، حيث يصير الطفل منذ الآن مشروع ميدالية، وفقط.

أثبتت هذه الأكاديميات نجاحًا كبيرًا بالفعل، وظهرت نتائجها منذ أولمبياد بكين حين حصلت الصين على 100 ميدالية، ثم 88 في لندن 2012، و70 في ريو 2016، وتتصدر الصين قائمة المتوجين في أولمبياد طوكيو الجارية، في انتظار العدد النهائي الذي ستحمله البعثة عائدةً إلى بكين هذا العام.

لا تنتهي رحلة الأطفال في هذه الأكاديميات نهاية سعيدة في المعتاد، لا يصير الجميع أبطالاً أولمبيين، ويخرجون إلى المجتمع دون أي تعليم أو مهارة، وبإصابات أورثتها لهم الرياضة التي أفنوا فيها أعمارهم، والتتويج بميدالية قد لا يحميهم من هذا المصير أيضًا.

وبحسب وسائل الإعلام الحكومية فإن 240 ألف رياضي متقاعد يعانون من الإصابات والفقر والبطالة، منهم بطل جمباز حاصل على ميدالية ذهبية شوهد يتسول في شوارع بكين، وبطلة ألعاب قوى اضطرت للعمل في حمام عمومي.

لذلك فإن أكاديميات الشباب في الصين قد نجحت بالفعل في إخراج أبطال أولمبيين، وقد تتفوق على الولايات المتحدة في الدورة الحالية كما تتمنى الحكومة، لكنها سرقت طفولة ومستقبل آلاف الأطفال، وتركت الكثيرين من أمثال تشينغ فنغ الذي لم يعرف شكل ابنه.

لا مشكلة فليفعلها المدرب

إنه عام 1986، تشيكوسلوفاكيا تدخل في صراع مع الاتحاد السوفييتي استدعى دخول قوات الجيش إلى براغ في شهر أغسطس. في أكتوبر بدأت دورة الألعاب الأولمبية في المكسيك، ولم يكن من الممكن على الإطلاق أن يخسر الاتحاد السوفييتي أمام تشيكوسلوفاكيا رياضيًا مهما كلفه الأمر.

المشكلة كانت أن فريق تشيكوسلوفاكيا في الجمباز كان الأفضل في العالم آنذاك، وعلى رأسه فيرا كاسلافسكا بطلة العالم عدة مرات، وكان لابد أن يتفوق الفريق السوفييتي عليهم بأي وسيلة، لأن الخسارة أمامهم كانت ستلقي بالكرة في ملعب جهاز أمن الدولة المخيف (KGB)، للتفكير في طريقة لعقاب فريق الجمباز، ولذلك كان على المسؤولين الرياضيين إيجاد حل فوري.

ظهر الحل في رأي طبي كان منتشرًا آنذاك، يقتضي أن الفتيات في بداية الحمل يصبحن أفضل وأقوى وأقدر على التحمل، طبقًا لكارين لارسن المختصة من المدرسة السويدية للرياضة والعلوم الصحية، فإن حجم الدم الذي يضخ من قلب المرأة يزداد بنحو 10 في المائة في بداية الحمل، وتزداد خلايا الدم الحمراء بحيث يصبح الجسم أكثر قدرة على توصيل الأكسجين إلى العضلات العاملة.

يستفيد الرياضيون من تغيير الهرمونات في بداية الحمل كذلك، حيث تؤدي الزيادة المفاجئة في هرمون الإستروجين والبروجسترون إلى تغيير في التمثيل الغذائي مما يشجع الجسم على تكسير الدهون للحصول على الطاقة بدلاً من الكربوهيدرات، وهو ما يسمح لهم بالاحتفاظ بمخزون الطاقة الكربوهيدراتية لفترة أطول، مما يمكّن اللاعبات من الاستمرار في المنافسة لوقت أطول من أقرانهن.

هنا كان قرار المسئولين السوفييت بأن تحمل لاعبات فريق الجمباز بالكامل، من تمتلك صديقًا أو متزوجة كان بها، فإن لم يكن فلا بأس، يتولى أحد المدربين الوطنيين المهمة. وبالفعل أجبرت اللاعبات على الحمل أو تعرضن للاغتصاب بمصطلح آخر، ومن بينهن لاعبتان في سن ال15.

أجهضت اللاعبات قبل البطولة بأيام، وقدم الفريق أداءً رائعًا حصل به على الميدالية الذهبية، وهزم تشيكوسلوفاكيا بالفعل في الأولمبياد وفي ساحات براغ على يد قوات الجيش، لكن ضريبة ميداليات الجمباز كانت باهظة.

ينفي الكثيرون هذه الرواية بالطبع، ولم يعترف بها الكثيرون حتى الآن، ويدور صراع قضائي منذ زمن لإثبات براءة الفريق من ذلك، وقد يثبت ذلك بالفعل، لكن تاريخ الاتحاد السوفييتي في التعامل مع الرياضيين يخبرنا أن هذه الأفعال ليست مستبعدة وتبدو طبيعية للغاية.

مجرد آلات

أولمبياد مونتريال الصيفية لعام 1974، الصراع بين ألمانيا الشرقية والغربية على أشده، والرياضة ليست سوى ميدانًا لانتزاع إقرار دولي بالوجود، وبينما تتزين كندا لاستقبال الوفود، كانت اللجنة المسئولة عن برنامج المنشطات في ألمانيا الشرقية تنهي عملها.

كان عملًا ناجحا بالفعل، فازت ألمانيا الشرقية وهي دولة صغيرة نسبيًا لا يتجاوز سكانها 17 مليون نسمة آنذاك، بأربعين ميدالية ذهبية رائعة، فاز فريق السباحة للسيدات بمفرده في 11 من 13 سباقًا للسباحة ، وهو إنجاز غير مسبوق.

لقد كن سيدات قويات للغاية، كن سريعات جدًا، كن مجموعة من الآلات، كن أربعة من أفضل السباحين الأمريكيين معًا في الفريق، وفي كل يوم كانت نساء ألمانيا الشرقية يفزن علينا في السباقات.
السباحة الأمريكية ويندي بوغليولي المشاركة في أولمبياد مونتريال

البرنامج شمل أغلب الألعاب تقريبًا، واهتم بشكل أكبر بالألعاب النسائية، حيث كان إمدادهن بهرمون التستوستيرون وسيلة سهلة ومضمونة النتائج، تتمتع اللاعبات بعدها بعضلات أضخم وقدرات بدنية أعلى من باقي المتنافسات.

تناولنا الحقن والحبوب لمدة طويلة باعتبارها فيتامينات مساعدة، ولم أسأل لأنني لم أكن متشككة على الإطلاق في طبيعة ما نتناوله، ولم أبدأ في الظهور كرجل بين عشية وضحاها، لقد حدث الأمر تدريجيًا، ولم أدرك ذلك بنفسي حقًا، لكنه كان واضحًا للجميع، وسواء ارتديت فستانًا أو تنورة أو وضعت الماكياج، فقد ازداد الأمر سوءًا، ولم أعد كما كنت أبدًا.
السباحة الألمانية الشرقية كاتارينا بولين 

لم تقتصر معاناة مئات الفتيات اللواتي تعرضن لهذه التجربة على ظهور بعض الملامح الذكورية فقط، بل تسبب ذلك في عدة أمراض لهن بعد ذلك، منها تكيس المبايض وتليف الكبد والسرطان، وتعرض أغلبهن للعديد من عمليات الإجهاض، أو ولد أطفالهن بتشوهات.

بعض الرجال دفعوا ثمنا باهظًا أيضًا، جيرد بونك المتوج بالميدالية الفضية في رفع الأثقال في أولمبياد 1976، قضى حياته على كرسي متحرك وعانى من عدة أمراض، نتيجة تعاطيه المنشطات بشكل مكثف حتى حصل على الميدالية وحطم عدة أرقام قياسية.

سقط جدار برلين بعد ذلك وانتهت ألمانيا الشرقية ولم تنفعهم الميداليات ال40، لكنها في المقابل دمرت حياة مئات الأسر، وكان ذلك ثمنًا باهظًا لميدالية أولمبية.

أشياء

لقد انتهت النظم الشيوعية وتفكك الاتحاد السوفييتي لكن جرائم الدول لم تنتهِ، والكثير من الدول ما زالت تفعل الشيء نفسه لأجل ميدالية وإن اختلفت الصورة، ولذلك ينبغي أن يتوقف الجميع لحظة لنسأل: هل هذه هي الرياضة التي يتمناها الجميع؟

لقد انفصلت الرياضة تدريجيًا عن كل القيم الإنسانية، لتصبح مرجعية ذاتها، حيث انفصلت عن القيمة تمامًا، لتصبح معايير الرياضة رياضية، ويصبح إحراز النصر هو الهدف الأعلى والأسفل والوحيد، ويكون الرياضي حينئذ أقرب للحيوان، الهدف هو الاستفادة القصوى منه وتحويله إلى آلة تنتج الأرقام القياسية غير الإنسانية بدورها.
الدكتور عبد الوهاب المسيري