في عام 1947 دهمت القوى العالمية الشعب الفلسطيني بوضع وعد بلفور موضع التنفيذ عبر تمرير قرار التقسيم، وتمكين الصهيونية من دولة على الأرض الفسطينية وفوق الدم الفلسطيني. نشأت تلك الدولة رغم مقاومة فلسطينية وعربية، مقاومة في ظل شروط تاريخية وميزان قوى في غير صالحهم؛ إذ إن فلسطين كانت ككل البلاد العربية ترزح تحت استعمار إنجليزي أو فرنسي طويل حرمها بدرجات متفاوتة من إقامة جيوش وطنية قادرة على الردع، وحرمها من ممارسة السيادة، ودمر أبنيتها السياسية أو مسخها، وألحقها اقتصاديًّا واجتماعيًّا، في نفس الوقت الذي دُعمت فيه الصهيونية بالمال والسلاح، وحرية الحركة والتنظيم، لتبتلع 60% من الأرض الفلسطينية كخطوة أولى على طريق تأسيس وطن قومي لليهود باعتبارهم أمة! أو كخطوة أولى على طريق تأسيس قاعدة استعمارية ثابتة فوق أرض تتفجر بالثروات والثورات، وتقع على تخوم الشرق الصيني والسوفيتي!

هذا التلخيص الذي لا بد مُخل بكواليس تلك السنوات، الكواليس التي ولا شك لم تعد خافية على أحد، هو ضرورة لأنه في تلك البداية التأسيسية لما يسمى بإسرائيل يكمن مفتاح الموقف من الصراع ومفتاح الحل. واليوم بعد ما يقرب من 75 عامًا على التقسيم، يواصل الشعب الفلسطيني، عبر شبابه المقاوم في الضفة والقدس وغزة، يواصل بالبندقية والسكين والحجر رفض حل حبل المشنقة للكيان الصهيوني. وبدون أية مبالغة قد يوحي بها التعبير فإن جوهر التناقض القائم في أرض فلسطين يجب عدم النظر فيه من خلال خلل الميزان العسكري، وهو خلل غير مستديم بالمناسبة.

إنه تناقض بين أمة فلسطينية تسعى لتحقيق تفوق عسكري من جهة وثكنة متفوقة عسكريًّا تسعى لتأسيس أمة يهودية. فمهما تمادت الصهيونية في الترويج لوهم الأمة اليهودية، ومهما غاب الصوت الذي يفضح هذا الطرح، فلن تستطيع الصهيونية المدعومة بكل الترسانة الإعلامية والجهاز الدعائي الإمبريالي خلق مقومات وجود أمة فشلت في التواجد والتطور خارج إطار الثكنة.

لقد تأسس الكيان الصهيوني – التجمع اليهودي في فلسطين – بحسب تعبير الدكتور محجوب عمر[i]، عبر تجميع اليهود من بلدان شتى على الأرض الفلسطينية، وفرض هذا الوجود لا بحقائق التاريخ بل بالسلاح وحده، اعتمادًا على عصابات الهاجاناه وغيرها من العصابات التي مارست تفريغًا وحشيًّا بالسلاح للأرض الفلسطينية بغرض إحلال اليهود الوافدين محلهم. أي بغرض فرض الأيديولوجيا الصهيونية على الأرض كأمر واقع. إن الصهيونية تقول إن اليهود أمة، وإن لهذه الأمة حقًّا في إقامة وطنها القومي، وقد وقع الاختيار على الأرض الفلسطينية – التي كانت ضمن عدة اختيارات أخرى – لمنح الأمة اليهودية المزعومة وجودًا فعليًّا. بالطبع دخلت عدة اعتبارات على الخط، منها ما عُرف حينئذٍ بالمسألة اليهودية، مسألة التمييز ضد اليهود، والوهم التوراتي الذي يستند عليه اليهود في غزوهم للأرض الفلسطينية، لكن ما يهمنا هو جوهر المسألة، مسألة خلق أمة من العدم.

لقد كف اليهود عن الوجود فوق أرض واحدة ما يزيد عن ألفي سنة، وعليه فقدوا وحدة اللغة، فوقت تكوين إسرائيل لم تكن العبرية هي اللغة السائدة في الأوساط اليهودية، كما فقدوا الحياة الاقتصادية المشتركة، ووحدة التكوين النفسي، إن كل هذه العوامل لا يمكنها أن تتواجد بمعزل عن بعضها. فتاريخ تكوُّن الأمم يبدأ من الأرض الواحدة، فوق هذه الأرض تبدأ الجماعة المعينة من الناس ممارسة نشاط اقتصادي، أي السعي عبر نشاط رئيسي لإنتاج وسائل عيشهم، أي التفاعل مع الأرض كمصدر أولي، ثم كوسيلة إنتاج بممارسة الزراعة، ومن ثم جرى تقسيم العمل ونشوء الطبقات، وقيام التبادل أي تكوُّن السوق، وفي خلال هذه العملية التاريخية الطويلة تنشأ اللغة كوعاء للأمة، كوسيلة ضرورية للتبادل، فالعلاقات بين الناس كلما ازدادت تعقيدًا ازدادت الحاجة للغة، أي لوسيلة تواصل لأجل التبادل، ثم بتعقد بنية المجتمع تنشأ الحياة الثقافية، وتكتسب تلك الجماعة البشرية طابعًا نفسيًّا واحدًا، وفي خلال هذا تتعرض تلك الجماعة لأخطار خارجية، كخطر الفيضان الذي واجهه المصريون، وأخطار الإغارة التي واجهتها مجتمعات الرعي القبلية في شبه الجزيرة، إن الاستجابة لمثل هذه الأخطار هي ضمن عوامل تشكيل الأمة وسماتها التاريخية.

كل هذه العناصر السابقة لا وجود لها فيما يخص التجمع اليهودي، بل إن الصهيونية تسعى لخلقها خلقًا، وقد كان الأمل هو حسم قضية الشعب الفلسطيني سريعًا على طريقة نموذج الهندي الأحمر الذي تعرضت تجمعاته الهشة للسحق على أيدي الأوروبيين – الأنجلو ساكسون وغيرهم – لكن السيناريو لم يسرِ على هوى الصهيونية لعوامل عديدة، أهمها أن الشعب الفلسطيني جذور ارتباطه بأرضه عميقة، وقد قاتل لأجلها طويلًا، وفي خلال ذلك وعى ذاته وعيًا ثوريًّا، تجسد في محطات عديدة واستجاب جماعيًّا لتحديات الاحتلال الإنجليزي، ثم التهديد اليهودي عبر ممارسة عنيفة، ولا يشحذ وجود الأمة شيء بقدر ما تشحذه حرارة المدافع.

لقد وعى الفلسطينيون مبكرًا أن التهديد اليهودي هو تهديد يستهدف وجودهم، وأن الصهيونية تختلف عن الاحتلال الإنجليزي في كونها أيديولوجيا إحلالية لا يمكن لها التجسد سوى عبر نفي وجود الأمة الفلسطينية، لكن لو لم تكن الأمة الفلسطينية موجودة فمن ذا الذي  حمل السلاح على مدى 75 عامًا هي عمر الوجود الصهيوني المنظم بقرار من الأمم المتحدة.

إن النشاط الجماعي الأول الذي مارسه اليهود الوافدون إلى أرض فلسطين هو القتل، ولعل التاريخ لم يخبرنا بأي سابقة تاريخية لأي أمة من الأمم استهلت وجودها بالجريمة المنظمة، فلو أن تلمس الأرض بحثًا عن الكلأ مثَّل الخطوة الأولى في التراكم البدائي لتشكيل الأمة، إن جازت التسمية، فإن اليهودي تلمس الأرض بحثًا عن الفلسطيني لقتله كي تستهل الصهيونية التراكم البدائي لمشروع خلق أمتها.

بدأ المشروع الصهيوني لفرض الأمة اليهودية بتأسيس الثكنة العسكرية، إسرائيل. وبينما تنبثق الجيوش في خلال التطور الاجتماعي للأمم كأحد مقتضيات الدفاع عن وجودها، فإن الأمة اليهودية قد أسست جيشها كي تنوجد منه وتفرض وجودها، فلماذا؟ لأن هذا الوجود لا يمكن له التحقق إلا بنفي الطرف النقيض، ليس نفيه من الأرض فقط، بل نفيه من التاريخ، نفي وجوده كأمة، إن تدمير الوجود التاريخي للشعب الفلسطيني هو المحدد الرئيسي لإمكانية تحقق وهم الأمة اليهودية!

خطر البندقية الفلسطينية

من هذه الحقائق تكتسب الاشتباكات اليومية وحروب غزة الموسمية قيمتها الثورية، إننا نعلم تمامًا أن هذا النمط من الاشتباكات وحروب الصواريخ الموسمية لن تحرر فلسطين، أو أنها لم تصل بعد عبر تراكمها الكمي في كل جولة وعبر تاريخها لتحقيق التحول الكيفي الذي يخلق ظروفًا موضوعية وذاتية تتيح إعادة إطلاق حرب التحرير الشعبية.

فديناميكية إعادة إطلاق حرب التحرير طويلة الأمد هي ديناميكية مختلفة تمامًا، تتدخل فيها جملة من العوامل، وتعتمد في جزء منها على طبيعة الظرف الدولي والإقليمي، وعلى الحالة الثورية في اللحظة المعنية. لكن الخدمة التي يؤديها الاشتباك اليومي المفتوح مع العدو الاستيطاني، والتي يدخل في جملتها أيضًا، هز إيمان الصهاينة في الداخل والخارج، اليهود الوافدين والمقيمين في جدوى الاعتماد على منعة جدار الثكنة، في قدرة هذه الثكنة على البقاء والصمود تحت التهديد الفلسطيني الدائم والمتوعد بالتطويح بعنق دولة إسرائيل كما تتجسد في أذهانهم، إن هذا لمهم جدًّا، لكن جوهر التناقض هو ما يعطي الاشتباك اليومي قيمته الحاسمة.

إن المقاومة الفلسطينية في التحليل الأخير تمنع اليهود من الخروج من الثكنة، أي تكبح وتوقف أي إمكانية متوهمة لخلق أي رابط تاريخي بين الصهاينة وأرض فلسطين غير الرابط الاغتصابي، أي تكبح أي تطور محتمل للوجود اليهودي في فلسطين يسمح بتوفير مقتضيات تكوين أمتهم. إن الثكنة تفرض نمطًا واحدًا من التطور، يُخضع كل ما عداه لمقتضيات أمن الثكنة، فيصبح الاقتصاد والاجتماع والسياسة مجرد عناصر خدمية لا عناصر تأسيسية في مشروع الأمة المزعوم.

إن استمرار التهديد الفلسطيني اليومي لكل مستوطن صهيوني يمنع تخليق شعور يهودي جماعي بوجود أي رابط عضوي طبيعي بينهم وبين الأرض التي يقفون عليها، وإن أعتى أساطير التوراة غير قادرة على الصمود أمام واقع الاشتباك اليومي. هذا التهديد المستمر يضع على كاهل كل فرد يهودي عبء النجاة الفردية، لأنه عبر 75 عامًا تقزمت كل فرص تكوين مجتمع يهودي يسعى للخلاص الجماعي ويتغلب على الفردانية التي لا بد رسختها الهجرات الداخلة إلى مجموع سكان الثكنة الصهيونية، الهجرات التي تأتي بتناقضات ثقافية ونفسية وحتى عرقية بين الشرقيين والغربيين.

وبمقدار ما يتعاظم الضغط الفلسطيني العسكري، بمقدار ما تنغلق حلقة الحصار العربي، بمقدار ما يصبح مشروع الأمة اليهودية وهمًا على وهم، بمقدار ما يندفع الصهاينة لتوسيع حدود الثكنة والتنازل عن حدود الأمة، أي أن ينهدم المشروع الصهيوني بفعل تناقضه الداخلي في جدل مع تناقضه مع الوجود التاريخي الفلسطيني. وبمقدار ما يفعل الاشتباك فعله الهدام على المشروع الصهيوني، بقدر ما يعزز الحقيقة الفلسطينية، يشتد عود الأمم في النار وبها.

إن المقاومة الفلسطينية، رغم وعورة طريقها وصعوبته، ورغم ما يبدو أحيانًا من انقطاع في مسارها، ورغم التحول الذي أسس لأوسلو فأسست له أوسلو، أقول إن هذه المقاومة بالرغم من أن مظهرها يوحي أحيانًا بأنها أفعال فردية يائسة، فإن جوهرها مرتبط بوعي فلسطيني جمعي، بأمة تمارس ذاتها المقاومة، ذاتها التي هي جغرافيا وتاريخ شعب ارتبط بأرضه عبر قرون، فصار حتى في الشتات يمثل حقيقة فرضت وجودها المسلح في دول الطوق والداخل المحتل، أمة تمارس ذاتها رغم تهجيرها، لأن علاقتها بالأرض صارت جزءًا من الذات التاريخية للجماعة الفلسطينية.


[i] الدكتور محجوب عمر، الاسم الحركي للكاتب والناشط الماركسي المصري رءوف نظمي ميخائيل الذي انتسب لحركة فتح في السبعينيات، يمكن مطالعة كتابه «حوار في ظل البنادق» الصادر عن دار الطليعة، بيروت.